«طلب الملك (الأعور) من رسام البلاط أن يرسم له صورة شخصية. احتار الفنان.. خشى أن يرسم الملك على حالته، بعينه المعطوبة، فيُغضبه، فالملوك لا يرون في أنفسهم سوى الكمال. كما خشى أن يرسمه سليم العينين فيثير ذلك الغضب أيضا، ويُتهم بالتدليس والتزييف. أخيرا تبددت الحيرة وظهرت الحيلة.. رسم الفنان الملك وهو ممسك ببندقية الصيد، في وضع التصويب، على غزال شارد، مغلقا إحدى عينيه». «عن قصة لسولخان أوربيليانى».
طبعا رموز القصة واضحة.. فالفنان هو الإعلامى الشهير «بيكاسو» أو لو شئت الوزير الجهبذ «ماتيس».. أما الملك الأعور ذو العين الواحدة فهو الملك ذو الرؤية الأحادية، طبعا هو.. ملك الترسو «فريد شوقى».
■ لكل نظام، ولكل حاكم، الحق في أن يكون له رجاله وأدواته الإعلامية، المؤيدة والمروجة له ولرؤيته، بل لأحلامه. هذا شىء طبيعى في كل الدنيا، و«التطبيل» للحاكم ليس عيبا في حد ذاته، لكن المهم ألا يكون مبتذلا، بمبالغة في الإطراء والمديح، والتأييد لكل قراراته وأفعاله وتصوراته، فحتى «التطبيل» فن وحرفة لها أصول، تماما مثل رسام البلاط السابق ذكره، فلسنا في زمن «النابغة الذبيانى».. «فإنك شمس والملوك كواكب.. إذا طلعت لم يَبْدُ منها كوكب». ولا ينبغى أن تستعين السلطة أو تسمح لغير الأكفاء بالتعبير عنها، والترويج لها، والاكتفاء بولائهم الفج لها، كمسوغ تعيين.
■ وسائل الإعلام المصرية نوعان- وفقا لشكل الملكية- عام وخاص. ويمثل اقتصاد السوق المنضبط، في مصر، جزءا من رؤيتها الاقتصادية الدستورية، وفى ذات الوقت، يقوم الإعلام «العام»، المملوك لها، بالترويج لخطاب سياسى واقتصادى، هو في مجمله اشتراكى ناصرى.. ستيناتى.. فهذا هو الخطاب السهل.. الشعبوى.. لا يحتاج لأى مجهود.. شعارات جاهزة.. يرثها المسؤولون جيلا من بعد جيل.. ولا جديد تحت الشمس، ما كان هو كائن وسوف يكون، وبالبدلات والحوافز والأرباح. «الملكية العامة» في هذا السياق هي «فساد عام» في أردأ صوره، فساد على المشاع.. بطالة مقنعة.. انعدام كفاءة ومهنية.. نزيف دائم لموارد الدولة... إلخ. لكن هل يجرؤ أحد على دخول عش الدبابير.. الإعلام.. «إعادة هيكلة الإعلام»، أم أن «إعادة الهيكلة» هي مفهوم لا ينطبق إلا على «الداخلية» فقط، وفقا لفقه المولوتوف؟ لماذا لا تتخفف الدولة من عبء ملكية معظم أو كل هذا الكم من وسائل «الإعتام» وبث الجهالة والغثاء؟ لماذا ندمن الكذب على الناس، ونتحدث عن الفساد وإهدار مقدرات الدولة، في الوقت الذي نتعامى فيه عن إهدار المليارات على إعلام متضخم بلا طائل، بلا رؤية جامعة.. بلا إطار.. بلا مسؤول، فليس هناك حتى وزير إعلام.. وكأننا حققنا كل أركان التقدم والازدهار.. ولم يكن ينقصنا إلا إلغاء وزارة الإعلام لنلحق بركاب دول الدرجة الأولى الديمقراطية!!.
تايكونات وأيقونات:
■ أما عن النوع الثانى من الإعلام، الإعلام الخاص، فخطابه أيضا غير متماسك، بل متناقض في محتواه. واللافت للنظر، بما يثير الدهشة، اختلاط حابله بنابله، اختلاط المسميين «أيقونات Icons الثورة» مع «تايكونات Tycoons الثروة»..!!. فتجد- مثلا يعنى.. مثلا.. مثلا.. قناة فضائية «ثورجية»، خاصة، مملوكة لرجل أعمال شهير، ربما يرى نفسه «أيقونة ثورية»، قناة يمكن وصفها بالشعبوية الديماجوجية، يسارية، اشتراكية، ستيناتية بامتياز..!! وجل مقدمى برامجها من «الناصريين» و«الثوريين» و«الاشتراكيين»، ولا غضاضة على الإطلاق في مسألة الاشتراكية واليسارية، ولكن.. «تايكون» ملياردير ولا يستعين إلا بالثوريين واليساريين!! لا يا شيخ!!.. أفلا يستوقفنا هذا التناقض؟ حقا إن شر البلية ما يُضحك! من المفترض أن يكون لرجل الأعمال، المالك لوسيلة إعلام، دور عبرها، فيوظفها في الترويج وشرح أهمية ودور القطاع الخاص واقتصاد السوق المنضبط في تنمية المجتمع وإيجاد فرص العمل... إلخ. رجل الأعمال المالك لوسيلة إعلام عليه دور في دحض أفكار متوارثة، وتغيير ثقافة سائدة، ترى «كل» رجال الأعمال مصاصى دماء.
■ دور وسائل الإعلام الخاصة أن توضح للعامة أن للقطاع الخاص دورا في تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، لا مجرد شعارات ديماجوجية. ولكن هل هناك في مصر مَن يقوم بهذا الدور؟.. للأسف.. لا.. إنها «الحداقة».. فكثير من رجال الأعمال يفكرون بطريقة «تايكونة الثورة» السابق ذكرها.. «تجنيد بعض الأصوات المبتزة.. الديماجوجية الناصرية، أو الزاعقة، اليسارية ادعاء، ليعملوا في جريدتى أو قناتى التليفزيونية، وبعقود ورواتب مليونية.. وبهذه الطريقة أُحصن نفسى من شرورهم، ويصبح عندى درع واقية من الثوريين واليساريين والناصريين.. درع متكلفة». وللأسف، انتشر هذا النموذج المشين، وجرى تعميمه. المسألة إذاً ليست إيماناً بالفكر الليبرالى، والترويج له، والدفاع عنه وعن اقتصاد السوق المنضبط. لا.. على الإطلاق، المسألة قصر نظر، ورؤية هزيلة للدفاع، لا عن أفكار ونظم ومبادئ، بل عن الذات والذات فقط. ويوما ما لن تجدى كل تلك الأساليب البدائية القبلية في شىء. حين يحصدون ما زرعوا، ويكتسح «الغاضبون» ذواتهم وكل الذوات.. وأولاد الذوات.