x

محمد عبد الخالق مساهل ديكتاتورية الحرافيش! محمد عبد الخالق مساهل الخميس 07-04-2016 21:01


من منا لا يتذكر ملحمة الحرافيش التي أبدعها كاتبنا الراحل نجيب محفوظ، وتركت في وعينا الجماعي هذا الفيض من العشق الأدبي لتراثنا الشعبي يما يحيويه من مَثل ومُثل، وعبرة وعظة؟

كان لكل فتوة في هذه الملحمة أدواته التي تعينه على تنفيذ قانونه الخاص كل في منطقته لفرض الهيمنة والحماية، والتي ترعرعت في مناطق الحسينية والجمالية وتحت الربع، والأزهر وشارع محمد على والفجالة والبغالة والقلعة والدرب الأحمر ثم القاهرة الفاطمية المعُزية بأسرها وما حولها.

كان هؤلاء الحرافيش يدينون بالولاء والطاعة المطلقة لفتوتهم كلما كان قادرا على بسط سطوته ونفوذه، لضبط إيقاع الحارة، وحمايتها من كل دخيل يدنس حرمتها، فقد كان مشغولا بإنفاذ العدل والفصل بين المتنازعين وتسوية الخصومات، إلى أن يأتى فتوة آخر أعظم خطرا وأشد بأسا ويطيح به من عرش القوة الحاكمة والسطوة المتحكمة.

وإذا كانت «الحرافيش» جمع حرفوش والذي هو بدوره- في معناه اللغوى- شخص ذميم الأخلاق، والخلقة ينتمي إلى أراذل الناس، فإني أرى أنهم انسلخوا من انتمائهم الطبقي التاريخي الذي صوره الجبرتي وغيره، ليتشكل نوع جديد هجين من الممارسة المتسلطة أسميه «ديكتاتورية الحرافيش».

إنها معضلة كبرى تمارس الافتراء في زمن الاجتراء، تفشت في حياتنا اليومية وسيطرت على الصورة الذهنية للمواطنين، وأثرت في نظرتنا إلى حاضرنا وفقهنا لواقعنا بحيث لا تستطيع أن تقوم بتحليل مضمون للأحداث المتدفقة دون أن تكون أحد أطراف الحجة «اللامنطقية».

إنها صورة رثة من التصرفات والسلوكيات تسيدت ودخلت حياتنا اقتحاما من طرف مرئي، أو تسللا من طرف خفي.

والحرافيش المتعنتون أنواع وطبقات، فهناك حرافيش الأزقة والأرصفة، مثلما أن هناك حرافيش الصالونات والمنتديات تجدهم في الإعلام والمحافل السياسية والثقافية ومحاريب الفكر وصناعة السينما والأدب.

يغلب على النخبويين منهم، وأقصد البعض دون الكل بالطبع، التعسف في الأحكام والانتصار للرؤية الأحادية، دون اعتبار لآراء الآخرين، والتدني في تصفية الحسابات والنزعات الانتقامية في رصد الأحداث وتحليلها بالفك وإعادة التركيب بالبناء المنحاز الأعمى الذي لا يحتكم إلى معايير موضوعية تقوم على صحة الاستدلال والاستنباط والاستقراء ومن ثم تخرج بـ«اللاشىء» .

ترى أحدهم قد انتفخت أوداجه وتفتقت عقيرته عن تصيد الأخطاء والتشهير بالخصوم وهو يظن أنه المنفذ الوحيد للحقيقة، أي حقيقة!

ولتدخل في صالوناتهم المغلقة والمفتوحة على تعدد أشكالها، لتجد «الحرفشة» الفكرية سائدة بين كثير من المثقفين، خاصة بعد أن اختفى «فتواتها العظام»- من أصحاب الأوزان الثقيلة التي أربأ بذكر أعلامها الفكرية المضيئة، حتى لا يكون هناك مظنة المقارنة أو المشابهة!- فانكشفت الحارة الثقافية حتى صارت عارية أمام مطامع الارتزاق والمتاجرة في فنون الكلمة الراقية التي لا تقبل المقايضة.

وترى بعضهم ينفعل للمجتمع ولكن في الاتجاه المعاكس الاستعلائي الذي ينظر من بعيد دون أن يكترث بتفاصيل الصورة على تمامها، فتراه مجُملا مُوجزا، مُجتزءاً، معتقدا أن الصواب كل الصواب فيما يرى وأن الحق كله معه.

وتشعر بالقلق عندما يظهر أحد الحرافيش برداء أزهري كأنه صك دخوله إلى عالم الفتوى والتشريع، ليبيح ما لا يباح دون نص قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، ويؤكد لمستمعيه: إذا اعترض أحد فقل أنا الذي قلت لك، كأنما نصب نفسه متحدثا رسميا عن السماء، رغم أنه ضيق الأفق فقهيا وعقائديا وفكريا لا يعرف الفرق بين النقل والعقل، وأن الدين ليس بالآراء ولكن بالأحكام وأنه «لا اجتهاد مع نص».

كما أن تلك الديكتاتورية متفشية في الدوائر والمصالح الحكومية والمؤسسات على تعددها واختلافها، فكل حرفوش لا يعمل لصالح الحرافيش ممن هم في أدني السلم الاجتماعي، أي القاعدة العريضة من الشعب الذي يدفع الضرائب وينتج ويكد ويشقى ويعمل من أجل الكسب الحلال ويدير عجلة الإنتاج بالاستهلاك، ولكن هذا الحرفوش يكافح لإرضاء الفتوة الأعلى منه درجة في السلم الوظيفي، والذي يعد بدوره حرفوشا مسكينا أمام فتوة أعلى درجة وهكذا، أما الوطن فقد حولوه إلى شماعة كبيرة يعلقون عليها «نبابيتهم» الغليظة التي يتلقى بها الضربة تلو الأخرى، ويصرخ ألماً بلا مجيب.

أما في الشارع فالصورة أكثر قتامةً، وتتخذ منهجا حركيا، فديكتاتورية الحرافيش لا تراعى قانونا أو كرامة إنسانية وتمارس فسادا أخلاقيا لا نظير له .

خذ التحرش مثلا قائما والذي جاء في أسوأ صوره الفاضحة والمفضوحة، لتفريغ هذا المخزون المتراكم من الكبت والانعدام الأخلاقي والحقد والتقاعس الأمني والتبلد الاجتماعي الذي يضع المرأة في قفص المساءلة!

هذا الشارع الذي صار يأخذ ثقافته من أفلام هابطة يسيطر عليها حرافيش بدرجة مؤلف ومنتج ومخرج، تصيبك بالغثيان والتقزز، فهي تسلط الضوء على العنف والعهر بأفعاله الرخيصة وكلماته الوضيعة المكشوفة، بدعوى أن القائمين على الصناعة يعكسون بالضرورة ما يحدث في إحدى طبقاته الشعبية الدنيا التي تتخذ من العشوائيات ملاذا وسكناً، دون أن يقدموا حلا ناجعا لهذه الفئة الدنيا المطحونة المظلومة.

وأرى أنهم يزيدون من تأزم ما هو مأزوم ويضيفون إليه الجديد من أساليب البلطجة والفجور وحيل السطو والزعامة الفارغة المتكلفة القائمة على سفك الدم والبلطجة وفرض سطوة القوي على الضعيف، لتخرج من العمل الذي يزعمون أنه فني، أكثر إحباطا وقرفا، وليبقى التأثير الاجتماعي الذي ينبني على قاعدة «أنت ما تشاهد».

كما تلمس آثار ديكتاتورية الحرافيش البغيضة في الممارسات الأمنية والتي تُعلى في الظاهر قيم الانضباط والنظام والأمن العام، في حين أنها تلاحق من ينتقدها أو يعري سوءاتها في التعامل مع القضايا المصيرية الكبرى التي تمس حقوق البشر، من سجن وتعذيب وتقييد للحريات، وتترك الشارع فريسة للفوضى والبلطجة والإجهاد والارتباك.

فمن منا لا يشعر بالوجع القلبي عندما يجد أرصفة الشوارع نهباً للتسول القبيح العلني والمستتر وقبضايات «الكارتة» وسائسي السيارات، فضلا عن الانفجار المروري والسلوكي في نهر الطريق بلا رادع، ولعبة «عسكر وحرامي» مع الباعة الجائلين والسائقين ما لم يدفع أحدهم الإتاوة لحرفوش «متفتون» بدرجة أمين شرطة.

وختاما أقول إن الأنظمة زائلة بحكم الوقت والشعوب باقية بحكم التاريخ، السلطة مطلوبة مثلما هي مطالبة، الأنظمة ترحل بسبب سوء الإدارة، والشعوب تستمر بقوة الإرادة، وتظل العدالة هي الحكم بين الحاكم والمحكوم.. بين حرافيش النخبة وحرافيش الأمة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية