عندما تنظر في عيون عامة المصريين تجدها حائرة.. شاردة.. عنيفة.. ثائرة لا تلوي على شيء، إنها تعكس خلجات صدور ضيقة، تفيض بمشاعر حزينة مريرة، ليصدق على شعبنا القول بأن العين مرآة الروح.
عندما تدقق النظر، ترى في هذه العيون الذاهلة دموعا حبيسة المآقي والأجفان، ولكنها تنم عن تراكم من العدوانية المكبوتة التي تهمس حينا على استحياء وتنفجر أحيانا بلا حياء. إنها تكشف عن يأس ممزوج بذهن شارد، وخوف من الحاضر، وتوجس من المستقبل، وتشكيك في جدوى العمل، واستهتار غير مسبوق بقيمة الحياة، وما يترتب على ذلك من اكتئاب عام.
وإني لأتعجب والحال هذه أن تحصل مصر على الترتيب الخامس عشر عربيا والمائة والعشرين عالميا من بين الدول السعيدة في مؤشر السعادة العالمي، الذي تطلقه الجمعية العامة بالأمم المتحدة.
مصدر عجبي ليس لهذا الترتيب المتأخر التالي لدول دمرتها الحروب ومزقتها النزاعات الطائفية وقوضتها الجرائم الإرهابية، وأخذها الفقر من أطنابها مثل الصومال وليبيا والعراق، ولكن لوجود مصر في هذا المؤشر من الأساس!.
ربما وجدوا أن الشعب المصري يستطيع أن يصنع البهجة ولو كذباً، أو يفتعل الفكاهة سخريةً من أوضاعه التي يكابدها، أو توريةً وتعريضاً بحكامه عندما يتعرض للظلم، ويتحايل على الابتسامة المفبركة ولو رياءً لرؤسائه، ويستعير قهقهات مصطنعة عند المجاملة، أو يخوض معركة يومية لانتزاع نصيبه الشرعي من الضحك على النكات والأقران والمواقف الطريفة، والتفوق المفرط في التقاط صور «السيلفي» الباسمة ومشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
المصري الذي يجيد كل ألعاب الحظ والفرفشة والقفشة البريئة والخبيثة، يضحك هربا من مشاكله المادية ومتاعبه النفسية، وإن كان له طقوس في السعادة، فهو دائما ما ينتظر رد الفعل المعاكس، ويخشى ألا تدوم حتى إذا أطال الضحك لسبب ما، ودمعت عيناه، وتضرع إلى الله قائلا: «اللهم اجعله خيرا».
بداية يقرر علماء الاجتماع أن أنظمة الحكم تتحمل المسؤولية عن سعادة المواطنين كعامل خارجي، يتخطى حدود النفس البشرية، فهي صاحبة الباع الأكبر في توفير مستويات من الرفاهية والتنمية.
يقول رائد التنمية الذاتية الأمريكي، جون رون، إن السعادة ليست شيئاً تؤجله للمستقبل، إنما هي شيء أنت تصممه لحاضرك.
لكن كل مؤسسات الدولة حاليا في وضع مزرٍ، حسب اعتراف الرئيس، لمثقفي مصر، بل أضاف أن سيارة الوطن تقف على الحافة، وأنه يريدها أن تندفع للأمام ثلاث خطوات بدلا من السقوط والدخول في مرحلة من الاضطراب والفوضى.
عندما تسمع هذا الكلام يكون ذهنك مشغولاً فقط بسبل الإنقاذ من الانحدار، ولا تملك رفاهية التفكير في الرخاء والازدهار والنظرة المستقبلية إلى الأمام.
ومن ثم أنظر إلى ما قيل حول استراتيجية التنمية المستدامة خطة 2030، وأخشى ان نكون قد دخلنا في عصر التعمية الدائمة.
إننا نعيش نوعا فريدا من الطبقية المتطرفة، ونجد مجتمعين متمايزين تمام التمايز ولا سبيل إلى التمازج بينهما إلا في مرويات ألف ليلة وليلة، فمجتمع الوفرة يقف جنبا إلى جنب مجتمع الندرة، وينقسم المجتمع شعوريا إلى شطرين أحدهما سعيد والآخر تعيس.
أعتقد أن السعادة غائبة عن قلوب المصريين.. لماذا، هل هم لا يستحقونها؟ ليس تماما هم أحق الناس بها من غيرهم وعن استحقاق، ولكن ثمة معوقات تحول دون تحصيلها.
أرى أن العائق الأول هو التناقض الصارخ في حياة المصريين على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، وهي أزمة متفشية حقا والتي ذكرت طرفا منها قبل قليل.
أما العائق الثاني فهو أزمة محبطة فعلا، هي أزمة التوقعات، وهي تطوق المواطنين وتحيطهم بالإحباط وخيبة الأمل، والتي تتفاقم عندما يتشبع المناخ العام بكثير من الوعود ذات الأسقف بالغة الارتفاع، ثم تأتي عوامل تفريغ الكلمات المعسولة من مضمونها من داخل جموحها.
خذ عندك مثلا القرارات السيادية الأخيرة التي تأتي بنسخة معدلة من الحكومة، والتي أنعمت على عشر جدد مبشرين بجنة الرضاء السياسي والمجهولين بالطبع شعبيا.
يتحمس أولو الأمر لضخ دماء جديدة فائرة في شرايين الحكومة التي دائما ما يصيبها التكلس والتصلب قبل الآون، في حين يتعامل العقل السياسي مع الاختيارات الوزارية وكأننا في دولة أفراد ممن يعتمدون على قدراتهم الخاصة الخارقة، وليست مؤسسات لديها رؤية وهدف وملفات عاجلة وأخرى آجلة، وكلها تنتظر الإنجاز وفقا لتوقيتات دقيقة محددة.
وتشعر كمواطن عند كل تعديل وزاري أن هدافا محترفا، غالبا ما يكون رأس حربة، يوضع في موقعه ليأتي لنا بكأس التقدم، ويفوز بقصب السبق، ثم ننتظر لتجد النتيجة المعتادة المعهودة، تعادل بلا أهداف بين الفريق الوزاري القديم والجديد، ثم يعاد التبديل مع الاحتياطي على الدكة، بعد أن يكون ترك بصمات غائرة بأزمات جديدة.
ونظل نحن نلهث ويستبد بنا التعب إلى مداه ويتبدد التفاؤل، ونعود صفر اليدين بخفي حنين، ومن هنا تتفاقم أزمة التوقعات.
هل من الصواب أن نشعر أن ما قاله فيسلوف الإغريق الأشهر أرسطو: «لا تصف أي شخص بأنه سعيد إلى أن يموت» بمثابة وصف تشريحي لحالة الشعب المصري؟.. كلا أتمنى أن يكون مخطئاً.
أرى في الحقيقة أن السعادة ليست شعورا شخصيا فحسب، وليست مسؤولية متروكة لاجتهادات فردية أصابت أو فشلت، بل هي خطة مؤسسية ودراسة وإنجاز وعمل خلاق وبناء، فهي ليست مثل الضحك أو التأثر بالكوميديا المسرحية، التي تترك أثرها الفوري على قسمات الوجه وتعبث وقتيا بالوجدان، ثم ما يلبث أن يتلاشى الشعور بالفرح!