x

محمد عبد الخالق مساهل تقبيل يد الرئيس بين الكاريزما و الفاشية محمد عبد الخالق مساهل الخميس 03-03-2016 21:45


هي قبلة نابعة من شعور بالفرح العارم، وضعها مواطن مصري على يد الرئيس السيسي بمجرد وصوله إلى مقر إقامته في كوريا الجنوبية في إطار جولته لعدد من دول شرق آسيا.

تعددت القبلات وتنوعت التأويلات، ولكن المعنى لم يكن دائما واحدا، لا أريد أن أصدر أحكاما قاسية على مشاعر القلوب، ولا أريد أن أتهم المواطن بالرياء السياسي أو الخضوع أو ما شابه من ألفاظ مشحونة بمعان ثقيلة قد لا تتماشى مع الفعل العفوي والساذج، أي البسيط والبريء في آن واحد، فهكذا الرجل أحب، وهكذا عبر عن حبه لشخص يجله ويحترمه، كما أنه أحد المصريين المغتربين في الخارج، أي أنه يفيد أكثر مما يستفيد، ويعشق الوطن دون مقابل، وتشكل تحويلاته مع أقرانه، في الشرق والغرب، موردا مهما من موارد الاقتصاد المصري إلى جانب الاستثمار والسياحة وقناة السويس والتصدير، فمن جميع النواحي لا أشدد عليه النكير .

كما أنني لم أربط بينه وبين ما حدث ليد السيسي عندما هم أن يصافح رئيس البرلمان الياباني والذي لم يبادله التحية، غفلا ودون قصد منه أو اتساقا مع ثقافته التي تملى عليه، كما رأينا النظر إلى أسفل أو التحية بالانحناء دون بسط اليد، وهو أمر لاقى تضخيما أراه فارغا.

رأيت أن سياق القبلة وموقع حدوثها في أحد بلاد الشرق الأقصى أمراً ربما تعود عليه المواطن الشرقي فقد نشأ على الطاعة المطلقة والعبودية المتوارثة في ظل الحضارات النهرية الفيضية، التي تتصف بمركزية السلطة الاستبدادية، والتي يكون فيها مصير المواطن المحتوم هو جر عربة الإمبراطور، مثلما ذهب إليه نفر من العلماء الأجلاء من بينهم العلامة الجغرافي الدكتور جمال حمدان، رحمه الله.

قلبت الأمر مليا، وكنوع من الرياضة الذهنية المشروعة، أو سمها إن شئت مناجاة عقلية، استولت على رأسي وخرجت منها بعدة معان تحملها تلك السلوكيات العفوية التي لا تقتصر على القبلات بل تمتد إلى الشعارات، وتكييل الاتهامات والتصرفات التلقائية التي قد تشوه الصورة وتضر بالرمز.

قلت إن تقبيل الحاكم يداً أو رأساً ربما كان دلالة على التوقير والتبجيل ومظهراً من مظاهر التعظيم والتفخيم اكتسبها السيد الرئيس ربما لكاريزما فيه، فلا بأس أن يكون له شخصية مغناطيسة أخاذة تجذب الجماهير إليه، فهذا عطاء رباني، خاصة أن كلمة كاريزما نفسها وردت في النص اليوناني من العهد الجديد بمعنى «عطية النعمة الإلهية»، فهو أمر لا يسعنا التدخل فيه طالما كان إلهيا، حتى ولو أدخله فيما بعد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ليعني الصفة الخارقة التي يملكها بعض الأشخاص فتكون لهم قوة سحرية على الجماهير.

إلا أنني وجدت أن الفاشية، التي ترتبط في أذهان الكثيرين بالإرهاب البوليسي والقمع الرسمي في مضمار التأثير، تشترك مع الكاريزما في صفة السحر، حيث يطلق الأتباع على القائد لقب «الزعيم الساحر» وهو يهتم بالجماهير والشعارات الكبرى، كما أنها تعني مجموعة من الحبال التي يتوسطها رأس البلطة التي كانت توضع أمام قناصل الرومان في العصور القديمة كرمز للسلطة، والتي كانت هي ذاتها رمز لقيادة موسيليني، شخصا ونظاما حتى تحولت إلى بلطة لقطع رؤوس المعارضة.

كل ما يحرك مخاوفي هو أن ينتشر نموذج التقبيل وتدبيج قصائد المديح، عن حسن أو سوء قصد، مما يضر بالحاكم، لتتحول القبلات والهتافات والشعارات إلى نفاق سياسي حقيقي يرجح كفة الفاشية على الكاريزما المكتسبة أو الفطرية.

فالإطراء الباهظ قد يفضى إلى اللجوء للبلطة لحز رقاب من ينطق بكلمة حق في لحظة صدق، وأن تكون التكأة دائما على التحديات التي تواجه الوطن وعلى رأسها الفقر الثقافي والمالي والانفلات الأخلاقي والانهيار الاقتصادي والبطالة والإرهاب وغيرها الكثير والكثير.

ولا أخفى أني شعرت بالقلق عندما تذكرت تعليق أمير الصحافة- هكذا لقبه- المرحوم محمد التابعي على التحول الذي حاد بالملك فاروق عن الطريق، بعدما أوسع الناس يده تقبيلا، حيث بادر الشيوخ والمسنون والوزراء لتقبيل يد الملك، بمجرد وصوله إلى شاطئ الإسكندرية، وقبل أن يتولى الحكم، وهذه اللحظة كانت- حسب التابعي- نقطة تحول في أخلاق فاروق وفي نظرته إلى البلد، فقد كانت أول مرة ينحني فيها الشيوخ لتقبيل يده على الرغم من أنه سحبها منهم، وبعد يومين تحدث النحاس باشا عن حبه لحكم الملك المحبوب.

ما أريد قوله إنني توصلت إلى أن تقبيل يد الرئيس جريمة في حقه وليس حقا له، وتعديد مناقبه ليس من أدوات التعبير الصادق عن الامتنان له، ولا عن الحب الحقيقي لاسمه وفعله، كما يتوهم البعض، ربما كان مثل هذه المشاهد مستساغة ومقبولة في دول الشرق الأقصى المتفردة بطبيعتها المستبدة، الأبوية السلطة كما قلت قبل قليل، ولكن ماذا إذا تكرر ذلك الموقف- أعني تقبيل اليد- في دول شقت مسالك طويلة وشاقة من الخبرة والممارسة الديمقراطية والليبرالية انتزعت من خلالها حرية الفرد المطلقة في مقابل السلطة أو من يمثلها، وترى هل تترجم شعوب هذه الدول أو حتى حكامها أنها قبول شعبي وحب جارف وغيره من المعاني التجريدية التي لا تمت لسيادة القانون والدستور بصلة؟

الرئيس حاكم تتحدد العلاقة بينه وبين المحكوم بالدستور والثوابت القانونية، وليس بتقبيل اليد أو الرأس أو القدم، فهو ليس ربا لأسرة اسمها المجتمع، كما أنه ليس شيخا من أولياء الله الصالحين الذي يتبرك به الناس لتقبيل يده، أو شيخا لقبيلة، يكون العرف فيها السيد المطاع.

الرئيس السيسي، أكبر مسؤول مدني بـ«حكومة القانون»، ليس حاكما لدولة دينية تعتمد النظام الثيوقراطي الذي يؤول شرعيته بحكم السماء ويتخذه منهجا لها في الحكم متمثلا في مرشدها الأعلى على الأرض، مثلما كان آية الله الخميني الذي كثيرا ما كان يجلس في مقصورة خاصة سواء في العتبات المقدسة في النجف أو حوزة قم العلمية في إيران ويتوافد عليه الشيعة لتقبيل يده والتمسح بجلبابه، دونما أدنى اكتراث منه ولو بتبادل النظرات.

وليس الرئيس شيخا لإحدى الطرق الصوفية يتلمس منه المريدون النفحات، ويلتمسون منه البركات والدعوات، ولو بمجرد لمس الأيدي، فضلا عن تقبيلها، بحيث يكون المريد كالميت في يد مغسله، فمقام المنصب الرئاسي في المفهوم الديمقراطي أعلى قيمة وأرقى ارتفاعا من هذا الفعل العفوي، الذي أراه إذا تكرر مشيناً، فالرئيس يأتي عن طريق صندوق الاقتراع أي بالقبول الشعبي الذي هو أقوى من القبلات والهتافات والشعارات.

وما انتشار تقبيل يد الملوك في المغرب والسعودية، إلا تقليد إلزامي فرضته أنظمة ملكية وراثية تمتد إلى ولي العهد الذي هو امتداد لدماء الأسرة الملكية.

السيسي يتولى مسؤولية ثقيلة الوطأة، نرجو أن تفضي إلى تحول مصر إلى الاقتصاد الذاتي المستقل، وتهيئة المناخ الملائم للاستثمار الأجنبي وتصفية بؤر الفساد الإداري والمالي.

وفي هذا المعني أريد أن أختم بما توصل إليه المفكر والمؤرخ الأسكتلندي الكبير ديفيد هيوم بأن الجماعة المتقدمة اقتصاديا لا تشجع على الغرور ولا تسبب الضعف، وهي قادرة على النهوض بلطائف الحضارة وإيقاظ المشاعر الإنسانية والأخلاقية.

ومن ثم يجد الرئيس جائزته الكبرى ليس في التقبيل، ولكن في تحقيق النجاح الوطني الكبير، ويا له من هدف لو تعلمون عظيم.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية