إذا كانت العبرة دائما بالخواتيم التي هي بالضرورة النتائج التي تقوم على مقدمات، فإن المشروع المصري كمنهج وأسلوب حياة شامل يبدو «سرمديا».. ما معنى هذا؟
أقول إنه إذا كان الأبدي هو ما لا نهاية له، في مقابل الأزلي وهو ما لا بدايه له، فإن السرمدي هو ما لا بداية ولا نهاية له!
وينطبق على الأول – أي الأبدى – مشروع الحضارة المصرية منذ القِدم والذي ظل خالداً على مر الدهور وتعاقب العصور.
وهذا نجح أجدادنا وأسلافنا العظام في تحقيقه وتركوا لنا من الآثار والتراث ما يدل عليه والذي يفيض بمجدهم التليد .
فتستطيع كتب التاريخ أن تقدم تفسيرا استطراديا متعمقا لمناهل ومشارب المصري القديم وكيف أنه كان دائما يضع المستقبل نصب عينيه، عقيدة وفناً وأدباً وموتا !.سواء أكان من أهل المدر أو الوبر.
كان الأجداد مضرب الأمثال حضارياً وتاريخياً، امتزج علمهم بعملهم وأنتج مدنية وعظمة ومفخرة في السلم والحرب .
لم يهتموا، مثلما يستبد بنا الشغف الآن، بالبحث عن«حجر الفلاسفة»، تلك المادة الأسطورية التي كان يُعتقد أن لها القدرة على تحويل المعادن الخسيسة الرخيصة إلى أخرى نفيسة ثمينة ويمكن استخدامها في صنع إكسير الحياة.
إن هذا «الأبدي» عبارة عن شعاع هندسي من الضوء، تستطيع أن تلمسه بيدك، بدأ منذ قرابة ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، وظل متماسكا بفضل التوحد الإقليمي بين الشمال والجنوب وبالتوحيد العقائدي بتعاقب الأديان وتعدد الرسالات، وسوف يظل وهاجاً ينير تاريخا زاخرا ما بقي النيل العظيم الذي قيل إنه نهر ينبع من الجنة!
هذا عن «الأبدي» في حياة المصريين، الذي نسىء إليه ولا نسير على هديه، ونرتد إليه كلما واجهنا معركة من أجل البقاء، أي بقاء نحتمي فيه ولا نحاكيه.
أما «الأزلي»، الذي لا بداية له، فيأخذ حكم الغيب الذي لا نعلم عنه شيئا في الحقيقة، فكلنا لا يدرك ما كان قبل عالمنا، وإن كان العلم يسعى حثيثا ومتوازيا مع الإيمان في البحث عنه، فهناك من العلوم ما يسمى بعلم الفلك أو التنجيم أو علم ما وراء الطبيعة «الميتافيزيقا»
وإذا كان علماء الكلام يقررون أن الشىء يمكن أن يكون أبديا دون أن يكون بالضرورة أزليا، لكن لا يمكن أن يكون أزليا دون أن يكون أبديا.
فإن هذا «الأزلى» ينسحب أيضا على علم المستقبليات بمعناه الحديث في النظم الغربية، الذي تخلفنا فيه ولا نعرف منه سوى الاسم وقشور المعلومات دون النفاذ إلى اللباب.
أما فحواه الذي يستند إلى رسم الخطط على أسس علمية وتجارب وخبرات، وقدرة حقيقية على إدارة الأزمات والحل العلمي بجمع المعلومات ثم فرض الفروض والتجريب ثم التأكد من صحة النتائج، فلا شيء من هذا ولا ذاك، ولا نصيب من إطلاق العنان للابتكار والخيال، ما دامت ثقافة الحياة الإدارية «المكتبية» البيروقراطية الكريهة تكرس عبودية مقيتة للروتين القاتل للموهبة والقدرة على الخلق والإبداع والاختراع.
كما تزخر الحالة المصرية بضلع ثالث يجمع بين الاثنين- الأبدي والأزلي- وهو «السرمدي»، الذي هو: ما لا بداية ولا نهاية له.
هذا هو بيت القصيد، فنحن نعيش حالة انكفاء على الماضي، ثم حالة انعزال في «الماقبليات» والانشغال القهري بـ«الماورائيات» وإهمال عمدي للمستقبليات.
عندما تتناول مشروعا مصريا للتنمية أو الإصلاح، تجد محاولات مبتورة دون جدوى حقيقية ودون تخطيط محكم فتحار أين البداية ويستبد بك العجب عندما تكتشف أن لا نهاية، أو بتعبير أدق النهاية المفتوحة.
وهذا ما يحدث في مجمل التحديات اليومية المرتبطة بقضايا مصيرية طويلة المدى، فكل ملف يأتي ليغطى على ما سبقه من ملفات لنظل داخل دوائر متداخلة من النهايات المفتوحة.. كيف؟!
لقد جاء مثلا اختطاف الطائرة المصرية ونهايتها الرومانسية ثم توابعها، ليغطى على إقالة المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، وما يحيطه من ملابسات عن حقيقة الفساد في مصر والانتماء الولائي للسطلة أو الانقلاب عليها.
ثم شغلنا خبر الإقالة عن التهديد الأمريكي الغليظ تحت ستار الحريات والتنديد بالانتهاكات، دون الاجتراء على توجيه رد رسمي يفضح جرائمهم المترعة بالعنف والتمييز والعنصرية والكراهية ضد رعاياهم أنفسهم، سواء في السجون أو في مجمل الحياة العامة، وما الإسلاموفوبيا والتحريض ضد كل ما هو إسلامي وعربي ومسلم إلا مجرد مثال، وما التعذيب ووسائله في انتزاع الاعترافات الإجبارية إلا صناعة أمريكية أصلية كانوا يصدرونها إلى مصر ما قبل الثورة .
وإني أتساءل الآن عن ملف المصريين في الخارج الذي ظل مفتوحا لكن دون بداية حقيقة ودون نهاية تأتي بنتيجة فعلية؟ وغالبا ما تؤيد حوادثه ضد مجهول أو قضاء وقدر ليظل نهاية مفتوحة بدوره.
ما مصير المواطن المصري عادل معوض الذي اختفى في إيطاليا منذ أكثر من خمسة شهور؟ في حين أن تلك الأخيرة أقامت أوروبا كلها برلمانا واتحادا ضدنا على خلفية اختفاء مواطنها جوليو ريجيني؟
وما سر مقتل مهندس البترول المصري عبدالرحمن السيد حسن، في مطار سيمون بوليفار الدولي، وفرار القتلة في حواري كاركاس رغم تورط موظف حكومي فنزويلي بالجمارك في سفك دمه؟
وماذا عن دم المواطن المصري وليد حمدي السيد، الذي سال أسفل عجلات الهمجية السعودية الانتقامية في الرياض منذ نحو الشهر ليختصر الحادث المأساوي المؤسف بأنه مجرد مضايقة مرورية ؟
لقد أهملنا مواطنينا المصريين المستباحين في الخارج بين قتل واختفاء لتطوى هذه الصحفة السوداء، وكأنهم فوائض بشرية كانت تعيش في مسام الجلد .. جلد المجتمع، ذهبت حاصل ضرب وخارج قسمة «بلا نصيب»، فلا دية ولا قصاص.
ومن قبل الجميع توارت في الخلفيه أزمة مستعصية تفتح علينا جميع الجبهات وهي أزمة عملتنا الوطنية، الجنيه وما يرتبط به من غلاء وكواء، واستدانة ومذلة السؤال من الخارج الانتهازي، وما يترتب عليه من انزلاق غضروفي مشؤوم للحياة الاقتصادية.
ثم تناسينا الأداء المتهافت البائس لمجلس النواب، رغم ما يواجه من عقبات وأزمات تستلزم إنشاء بيوت خبرة برلمانية حقيقية لترشيد وتوجيه أداء الأعضاء بدلا من تجاربهم المرتجلة المبتسرة التي تركز على رضاء الدوائر الانتخابية ولا تلقي بالا للمصلحة العامة.
ويظل الإرهاب كابوسا جاثما والإهمال مزاجا عكرا متجذرا والتعنت الأفريقي الذي يترأسه الأحباش ملفا شائكا لايريدون إغلاقه إلا بقتلنا عطشا، ويبقى الفساد زاحفا كثعبان «الأنكوندا» الضخم إلى ما أعلى الركب، ليلتف حول رقبة البلد.
و لا ينتهى تمزقنا بين اتهام بتطبيع وسب لمقدسات دينية، وإهانة لتقاليد وموروثات، وانتهاك علني جاهر لمواثيق الأخلاق والشرف الوطني، ويتشتت الرأي العام كل يوم في دائرة من الشر تضم كل الملفات المفتوحة من كل الجوانب وقضايا تستعصى على الحل والانتهاء!
لينعقد الرهان فقط على مرور الزمن وسقوط الكل بفعل التراكم والتقادم.
ويبقى الإنسان المصري متأرجحا بالتناوب بين «الأبدي» الذي يُذكره بمجد الأجداد و«الأزلي» الذي يلجأ إليه طمعا في شفافية الروح والنعيم المقيم في السماء.
وإني لأشعر أننا في صحونا وحتى نومنا، نسير على خط مستقيم لا نحيد عنه، ولا أقصد المستقيم هنا في سياقه الأخلاقي والاشتقافي اللغوي من «الاستقامة» التي هي الصلاح والإصلاح والأمانة والنزاهة، ولكن في شكله الهندسي المحض، الذي يتركب من شعاعين كل منهما ينطلق في طريق «سرمدي» يتكون من اتجاهين متعاكسين على خط واحد بلا بداية، وبلا نهاية.