x

محمد فودة فتش عن الكنز.. محمد فودة الخميس 07-04-2016 21:03


أنا باسير لبلاد بعد ١٠ يوم!

فاجأني حلاقي البنغالي بهذه العبارة، فور جلوسي صاغراً تحت يديه، وكالعادة لم أعره الانتباه اللازم، رغم إصراره على الحديث معي كصديق حميم، ولم يكن عندي مانع للقيام بهذا الدور الإنساني، لولا أني لا أفهم معظم كلامه، فهو لا يجيد الإنجليزية، ولا العربية، ويعتقد أن الأوردو أنجلو عربي التي يتحدثها هي لغة الضاد في أفصح مفرداتها!

سألته متثائباً، هل هي إجازتك السنوية؟ رد بحزن، «لا أرباب فيه مشكل وبيبند المحل!» ترجمة العبارة السابقة، أن صاحب الصالون يعاني من ضائقة ما ومضطر لإغلاقه.

حاولت التخفيف عنه كصديق حقيقي، مؤكداً أنه سيحظى بفرصة أفضل لأنه حلاق جيد وبالغ النظافة، ورد بقدر من المسؤولية قائلاً «سأعطيك بعض النصائح حتى تختار حلاقاً مناسباً»، توقعت وصلة الرغي المعتادة، حول مواصفات بديهية يجب أن تتوافر في الحلاق الجيد، لكنه فاجأني بمعلومات مهمة فعلاً، لم أنتبه إليها سابقاً، بداية من كيفية الإمساك برأس الزبون وآلية تحريكها، والمساحة التي يجب أن تفصل بينهما، وفن استخدام المقص، والأخطاء التي لا تغتفر ونصائح عدة مفيدة.

ولأول مرة ينال هارون انتباهي كاملاً وسألته «هل حصل على دورة ما في بلاده؟، رد بأن هناك تدريب فني وقبل أن يُسمح لأي منهم بمغادرة بنغلاديش للعمل في الخليج يخضع لامتحان وتقييم، وإذا فشل يُدرب مجدداً ويُعاد اختباره حتى يحصل على ترخيص، وبالتالي يكون سفيراً مشرفاً لبلاده، ويصير سبباً لاستقدام آخرين، وتوفير فرص عمل لهم في هذا المجال.

- أمارس نشاطا تطوعياً كعضو مجلس إدارة بالمقر الرئيس للأندية المصرية في الإمارات لذا ألمس عن قرب مشكلات العمالة المصرية، وذات يوم، اتصل بي صديق طالباً مساعدة شاب مصري لا يجد مأوى أو عمل وأوشكت نقوده على النفاد، وهو –على حد قوله- مهندس بترول لديه شركة مشتقات بترولية في القاهرة لكنه تعثر مادياً، وأقنعه صديق له يعمل نادلاً بمطعم أن يأتي إلى الإمارات بتأشيرة سياحة، وسوف يجد فرصة عمل سريعة، ولا يحمل هماً لسكن أو مصروفات، وكالعادة تخلى عنه صديقه وطرده بعد يومين!!

طلبت التحدث مع المهندس المتعثر، وسألته عن مؤهلاته الفنية، ومن أي جامعة تخرج، فتلعثم قليلاً، وقال «لا أنا معايا دبلوم صنايع!!

لم أندهش كثيراً فأنا مدرك أن كونك باشمهندساً في مصر لا يعني بالضرورة أن تكون خريج هندسة،! وسألته «لماذا لم تكن صريحاً من البداية؟! وطلبت منه عدم الكذب لأن الفهلوة لا تفيد هنا، وتبين لاحقاً أن شركة المشتقات البترولية التي ادعى امتلاكها، عبارة عن بدروم يبيع فيه الديزل!!

حالة الباشمهندس ليست نادرة إطلاقاً، فآلاف الشباب يغادرون مصر من دون تأهيل أو تدريب أو تعليم حقيقي، مسلحين فقط بالفهلوة، وقناعة المصري أنه- ثقة في الله- لا يستعصي عليه شيء، ويلزمه فقط عامين في معهد التمريض وشهري خبرة ليصبح جراح مخ وأعصاب!

- ثلاثة من أصدقائي رجال أعمال مصريون في الإمارات، الأول يتجنب كلياً تشغيل عمال مصريين، بدعوى أنهم متمردون، ومزعجون وسلبياتهم أكثر من إيجابياتهم، مقارنة بالعامل الهندي المطيع، والثاني لديه عدد محدود من العمال المصريين، واضطر ذات مرة إلى فصل أحدهم بعد أن سبب له مشكلات كثيرة، ونشر نوعاً من الطاقة السلبية في الشركة، ولم يلتزم بالعقد الموقع بينهما، واحتاج صديقي إلى جعله عبرة للجميع حتى يدركوا أن الاحترافية والالتزام لا يتسقان إطلاقاً مع الفهلوة والابتزاز!

ويمثل الصديق الثالث حالة استثنائية تستحق الدراسة، فهو ينحاز إلى العمالة المصرية، مقتنعاً أنها تتسم بالإبداع والابتكار خصوصا الفنيين من أفرادها، وأكد لي أن الإدارة هي كلمة السر، إذ يتعامل معهم وفق اشتراطات صارمة على الطرفين، فلا يؤخر رواتبهم يوماً، ويضع لهم لائحة مكافآت وجزاءات واضحة..

الخلاصة من كل ما سبق أن الفهلوة التي تسود في مصر وتعززها الدولة في جميع القطاعات والمصالح لا تجدي في الخارج، وعلى الحكومة أن تدرك قيمة الكنز البشري في بلادنا، وتستثمره بطريقة مناسبة، كما تفعل بنغلاديش مع هارون ورفاقه!

لماذا لا تنشئ الحكومة مدينة مثل السادات أو العاشر من رمضان تخصص للتدريب فقط في جميع المجالات، تديرها مؤسسة تتولى تقييم العمالة، ومنحها رخص لمزاولة النشاط، في الخارج، وتتولى بنفسها التعاقد مع الدول الجاذبة مثل أقطار الخليج، وتؤمن على العامل قبل سفره، وتفرض عليه استقطاع نسبة من راتبه كمعاش يضمن له حياة كريمة بعد عودته، وتوفر له ثمن النعش الذي يواري جثمانه لو مات في الغربة.. وتذكرة السفر التي تضمن له انتقالاً كريماً إلى مثواه الأخير.. وللنعش مقال آخر!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية