x

محمد فودة السيدة الأولى محمد فودة الإثنين 21-03-2016 13:19


حدثان لا يمكن أن يمحيا من ذاكرتي
في قريتنا الصغيرة حين أنهى صديقي وشقيقي الأكبر دراسته الثانوية بتفوق معتاد، لا يتسق إطلاقا مع حالة الصخب الذي كان يفرضها في حضوره وشغبه منقطع النظير..
كان شخصا فريدا من نوعه، ملأ جدران منزلنا بشهادات تقدير في جميع مراحل دراسته الأساسية، يكتب شعرا يفوق سنه آنذاك، يتحدث الإنجليزية والفرنسية بسلاسة يحسد عليها.. لكنه كان جامحا مثيرا للجدل وأحيانا المشكلات، ولا أفهم حتى الآن كيف كان يتم اختياره طالبا مثاليا مع كل هذا الجنوح.. 😩
على أي حال، أنهى دراسته بمجموع فتح له أبواب كليات القمة، وغادر إلى القاهرة ملتحقا، بأعظمها، الاقتصاد والعلوم السياسية، وبعد قرابة الشهر، فوجئنا بما يشبه الزفة في شارعنا، وخرجت لأستكشف فوجدت أخي مرتديا الزي الأسود الأنيق لضباط الشرطة، والحي بأكمله يحيط به في أجواء من الفرحة الصادقة، والفخر بما اعتبروه ظهيرا لهم.
الجميع سعيد، والبعض تبرع بتوزيع «الشربات»، إلا شخص واحد «أمي»، رأيت إحباطا في عينيها وحزنا لا يتناسب إطلاقا مع الموقف.
سمعتها لاحقا تتحدث هاتفيا إلى عمي الأكبر وتعاتبته قائلة «هي دي معزتك لي، هي دي الأخوة اللي بيننا، ابعتلك ابني متفوق في كلية الاقتصاد، يرجع في كلية بتقبل اللي بيجيبوا 50%».
لا شك أن عتابها صدم عمي، وربما كان يعد ما اعتبره مفاجأة سارة لتقديره العظيم لها.. لم أستوعب كثيرا حزن أمي آنذاك، لم أفهم لماذا تختلف عن الجميع، وشعرت بأنها لا تقدر قيمة أن يكون ابنها باشا، كما لامها كثيرون على موقفها، مؤكدين أن لا منزلة تفوق مرتبة الضابط!
-أنهيت دراستي الثانوية بتفوق فاجأ أمي، لا أعرف لماذا لم تثق في رغم تفوقي منذ الصغر؟! ربما لأن أشقائي الأكبر سنا، خصوصا الأخير استولوا على نصيبي من التفوق.
اجتمعت العائلة، وقرر الجميع أن على الالتحاق بكلية الشريعة والقانون، متفقين على أن مستقبلي مضمون، إما وكيل نيابة أو عضو هيئة قضائية «السلطة المقدسة في مصر!» لكني لم أتحمس لذلك، إذ كنت مهووسا باللغة الانجليزية، كما أن مجموعي كفيل بإدخالي الجنة خصوصا بعد الجرعة المكثفة من المواد الشرعية التي درستها في المراحل الأساسية.
في هذه اللحظة الحاسمة من حياتي، دخلت أمي غرفتي، وأغلقت علينا الباب، وسألتني: «لماذا أنت حزين؟، فشرحت لها ما حدث، فقالت: وما هي رغبتك؟ فأجبتها» كلية اللغات والترجمة، قالت بعفوية: تصدق اسمها حلو.. وسألتني: لو كتبتها كرغبة أولى في كراسة الرغبات الآن، هل يمكن تغييرها؟
قلت: لا، ما سنكتبه الآن سيحدد مستقبلي، قالت: اكتبها، لكن عدني حين تغادر إلى القاهرة، لا تعد إلى هنا بعد انتهاء دراستك، أنا أراك إعلاميا...
أمي لم تنل نصيبا كافيا من التعليم، لكنها كانت امرأة مثقفة، مستنيرة يقال عليها بالإنجليزية «visionary» متبصرة.
فهمت في زمن لاحق حين نضجت لماذا حزنت لالتحاق طه بالشرطة، ولماذا تدخلت لتحويل دفة مستقبلي.. ولم أعد كما وعدتها.. لكنها لم تعد كثيرا كذلك. .
يدرك المحيطون بي أن لأمي مكانة استثنائية في قلبي، لكن لا يتخيل أحد كيف أن حياتي ناقصة من دونها.. أفرح بنصف مشاعري، وأحزن بالنصف الآخر ولا إنجاز مكتمل!
يا لقسوة الغياب في هذه المناسبة، كل عام وأنت بخير يا سيدتي الأولى.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية