تم تحرير مدينة «تدمر» السورية، من الاحتلال الداعشى، هى المدينة الأثرية الأولى فى سوريا، ومن المناطق الأثرية المعدودة على مستوى العالم، حين احتلها الدواعش بدأوا بإعدام «على أغا»، مدير الآثار بها، بطريقة بشعة، وكان جاوز الثمانين من العمر، لم يكتفوا بذلك بل قاموا بتدمير أحد المعابد القديمة، ولم يتبق منه سوى أطلال البوابة، فضلاً عما قاموا به من تدمير قطع أثرية أخرى، ما فعله الدواعش لا يختلف كثيراً عن أفعالهم «جرائمهم» فى مدينة «الموصل» العراقية، حين دمروا عدداً من التماثيل العريقة بها.
الدواعش حالة أشد إرهابية من القاعدة، ولنتذكر ما قامت به القاعدة فى أفغانستان تجاه بعض التماثيل القديمة، الأمر الذى استنكره فى بيان صدر حينها، مفتى جمهورية مصر العربية د. نصر فريد واصل.. هل يختلف هؤلاء عن الذين توعدوا المصريين بنسف أبوالهول، أو أولئك الذين حاولوا قبل شهور تفجير معبد الأقصر..؟؟!!
وهل هم يختلفون عن أولئك الذين اغتالوا الراحل «فرج فودة» سنة 1992 فى مصر الجديدة، عصراً، أو عن الذين حاولوا اغتيال نجيب محفوظ فى أكتوبر سنة 1994 أمام منزله بالعجوزة؟!
الأمر المؤكد أنهم جميعاً متقاربون، هم مدرسة واحدة، ما يختلفون فيه فقط هو العلانية من جانب الدواعش والتقية السياسية لدى من هم عندنا.. الدواعش لا يخفون نواياهم وأهدافهم خلف عبارات تحتمل مختلف التأويلات، التى برع فيها آباء الدواعش فى مصر.
ما يستوجب التوقف هو أن الدواعش ومن هم على شاكلتهم، يتوجهون – عادة – بالعداء ومحاولة التدمير والاغتيال إلى رموز القوة الناعمة فى المكان الذى يحلون به، فى سوريا بدأوا بقطع لسان شاعر وإصابته فى حنجرته، فعلت ذلك جبهة النصرة «المعتدلة جداً»، وفى مصر استهدفوا فى الأربعينيات المستشار الجليل أحمد الخازندار، وقاموا باغتياله بتكليف مباشر من مرشدهم حسن البنا، الذى يصرون – رغم جرائمه الكبرى - على أنه رمز الاعتدال والسماحة!!، اغتالوا الخازندار لمجرد أن قضية تخصهم عُرضت أمامه، وبدا فى الأفق أنه لن يخضع للابتزاز الدينى الذى برعوا فى استخدامه مع الكثيرين، وفى السبعينيات من القرن الماضى، وبعد أن أطلق لهم الرئيس الراحل السادات العنان، حاولوا الاغتيال المعنوى لرموز النهضة المصرية، أم كلثوم، د. طه حسين، محمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وغيرهم، هل نتذكر حملات الشيخ كشك عليهم من منبر مسجد عين الحياة، كل جمعة، وهل نتذكر كتبهم فى تكفير د. طه حسين، عميد الأدب العربى..؟
أدوات ورموز القوة الناعمة كثيراً ما تُستهدف، القطع الأثرية تتعرض للسرقة وللنهب فى كثير من الحالات، هناك عصابات إقليمية ودولية ومحلية تعمل فى هذا المجال ويتم ملاحقتها قانونياً؛ رموز الإبداع، من كُتاب وفنانين وباحثين، قد تواجههم سلطات وقيادات مستبدة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، يحدث ذلك حتى فى الولايات المتحدة، إدوارد سعيد ظل لمدة تسع سنوات واتصالاته تحت المراقبة من جهاز الـF.B.I، خشية أن يكون إرهابيا فلسطينيا، إذ كان إدوارد سعيد وقتها عضواً باللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت المنظمة تصنف باعتبارها منظمة إرهابية.
لكن المتشددين والإرهابيين سواء كانوا إخوان أو قاعدة أو دواعش لا يسرقون الآثار، بل يدمرونها تماماً، ولا يستبدون بالمبدعين، بل يقومون بتصفيتهم، والسبب أن جماعات التشدد والإرهاب لديها مشكلة وجودية مع القوة الناعمة، هى ترفض وجودها من الأساس، القوى والتيارات الاجتماعية والسياسية والتقليدية تتحفظ على بعض نماذج من الذى تنتجه القوة الناعمة، ومع التطور والنضج الاجتماعى وبقدر من النضال السياسى والثقافى، تسقط التحفظات تلقائياً، وهذا هو الفارق.
وجود القوة الناعمة وفاعليتها يعنى بالضرورة تراجع عمليات الإرهاب، وسقوط أفكار التشدد والتطرف، العلاقة هنا: إما أو، وجود أحدهما يعنى نفى وجود الآخر.
أياً كان الأمر، لابد أن نسعد بتحرير «تدمر»، ونتمنى أن يتحقق ذلك فى الموصل، وفى كل المناطق التى احتلها الدواعش، فى بلادنا العربية، سواء كان احتلالا ماديا مباشرا أو احتلالا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.