عاصفة شديدة من الانتقادات والإدانات والبيانات الأمريكية والأوروبية والأممية، توالت ضد مصر مؤخراً، على خلفية ملاحقة سلطات التحقيق المصرية جنائيا عددا من المنظمات الحقوقية المحلية، بتُهمة تلقي أموال من الخارج، وهي القضية المعروفة إعلامياً بـ«التمويل الأجنبي».. فيما تتزايد تداعيات أزمة جريمة تعذيب ومقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، وتعقيداتها في ظل فقدان «وزارة الداخلية» للمصداقية وتمتعها بسمعة سيئة في التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، مع الفشل الذريع في إقناع الرأي العام الأوروبي أو حتى الداخلي، بـ«السيناريوهات الرديئة» المتداولة تفسيرا للجريمة الغامضة، وليس آخرها بالطبع حكاية تصفية «عصابة سرقة الأجانب» وضبط متعلقات ريجيني.
البادي من السياق العام، أن لدينا متخصصين مهرة بفن صناعة الأزمات يبدعون في دفع الدولة إلى اللعب العشوائي على رهانات خاسرة، استناداً لحسابات خاطئة ربما تعود بمخاطر سياسية واقتصادية على البلاد.. قضية التمويل الأجنبي هذه مثارة منذ عام 2011.. الجزء الأول منها يتعلق بفروع منظمات أجنبية عاملة بمصر جرى إغلاقها في حينه، ومحاكمة 43 متهما عاملين بها، منهم «19 أمريكياً» ومعاقبتهم جميعاً في يوليو 2013، بالسجن مُدد تصل إلى خمس سنوات مع إيقاف التنفيذ، وذلك في غيبة المتهمين «الأمريكان» إذ تم تسفيرهم لبلادهم، رغم كونهم على ذمة القضية آنذاك.. أما الجزء الثاني والأخير موضوع التحقيقات الحالية، فهو مشمول بحظر النشر، وخاص بمنظمات حقوقية مصرية، وهو ذاته الذي جلب كل هذه الانتقادات الدولية الآنية، المتشابكة مع قضية ريجيني.. مما فتح الباب واسعاً للمزيد من الضغوط على مصر، والتشهير بها في المحافل الدولية بشأن الانتهاكات الحقوقية، وكأنه لا يكفينا جهود الإخوان في هذا الصدد، ناهيك عن عدم التعافي لوقت طويل قادم من تبعات «أزمة تفجير الطائرة الروسية»، بفعل إهمالنا في المطارات، وما ترتب عليها من اغتيال للسياحة التي تمثل أهم مصادر الدخل القومي، والتي سبقها واقعة مقتل مجموعة من سياح السفاري المكسيكيين بطريق الخطأ، اشتباهاً بأنهم إرهابيون.
لقد سبق لمصر على مدار سنوات طويلة، التوقيع على عشرات العهود والاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان، ومنها اتفاقية للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما يلزم مصر دوليا بتنفيذ هذه العهود التي صارت في مرتبة القوانين المصرية واجبة التطبيق.. وهذا ما يفسر تناول الدساتير المصرية منذ عام 1971 لهذه الحقوق الإنسانية والنص عليها، بغض النظر عن التفعيل من عدمه.. كما أن بعض هذه الاتفاقيات تسمح بتقديم منح وتمويلات أجنبية لمنظمات المجتمع المدني.
عودة إلى الانتقادات وبيانات الإدانة، استنكاراً لفتح ملف «التمويل الأجنبي» مُجدداً.. فإن توابع هذه المواقف الدولية، تمثل خطراً على البلاد، إذ تعوق عملية جذب الاستثمارات والسياحة.. ومع تراكم هذه الإدانات فإنها قد تقود البلاد إلى عزلة سياسية واقتصادية، وتجلب عواقب وخيمة، نتمنى ألا نصل إليها، والمشكلة أنها أزمة اخترنا أن نذهب إليها بكامل إرادتنا نتيجة حسابات فيها قدر من الرعونة غير المأمونة في ظل حالة الهشاشة التي تمر بها البلاد.. فهي معركة خاسرة بالتأكيد، ولن تفيد الدولة في شىء، بل بالعكس، ستعود بمزيد من التشوه لسمعتنا الدولية، سيما ولغة وزارة الخارجية في هذه المعركة بأن «حقوق الإنسان المصري هي شأن داخلي»، لم تعد مقبولة في عالم اليوم.. ويبقى أن ضمان حقوق الإنسان والالتزام بها، هو الحل الأمثل، مع سن التشريع اللازم لتنظيم شؤون منظمات المجتمع المدني، وضبط الرقابة على التمويل، لضمان عدم الانحراف.. ولتكن نقطة توضع وراء ما فات.. ومن أول السطر نحاسب بعدها المنحرف شخصاً أو منظمة دون خسائر.
نسأل الله السلامة لمصر.
[email protected]