ما الخطوة التالية للحكومة فى مواجهة جنون العملة الأجنبية؟ وهل أدركت أن تحرير صرف الجنيه لم يوقف زحف الدولار على الجنيه؟ وهل تعلمت أن سعر الصرف تحدده قوة الاقتصاد وليس لعبة استغماية مع تجار العملة؟ والأخطر والأهم هل ستجتهد فى البحث عن الأسباب الحقيقية لارتفاع سعر الدولار أم ستعلن قريبًا عن تصفية عصابة متورطة فى اغتيال الجنيه؟!
ليس أمام حكومة بهذه الإمكانيات البشرية سوى الاستمرار فى سياسة الإنكار، لأنها لا تمتلك الرؤية، وإن امتلكتها لا تمتلك الرغبة وإن امتلكتها لا تمتلك القوة للتنفيذ، ولهذا فهى تواصل الإيهام بقدرتها على تفصيل كسوة للهرم من منديل.
الحل أكبر من هذه الحكومة ولم يكن فى يد التى قبلها ولا التى ستأتى بعدها، بل فى تحول سياسى لم يحدث، وكان من شأن هذا التحول السياسى أن يقود إلى تغيير فى الخطاب الاقتصادى، أو ما سميته فى هذه المساحة مرارًا «العقيدة الاقتصادية للدولة» تلك العقيدة التى وضعها السلف الصالح من جماعة جمال مبارك ولم تتغير حتى اليوم. وهى عقيدة بسيطة تقوم على مبدأ الدولة الريعية التى تتوزع خيراتها على عدد محدود من المضاربين والعاملين فى الاستثمار العقارى وخدمات الاتصالات، هذا الاقتصاد يحقق المليارات للمستثمر ويظهر نموًا فى الميزانية، ويدهس فى طريق تقدمه الفقراء ومعهم اقتصادنا الحقيقى الراسخ الذى بنى استقلالنا وكفايتنا منذ نهضة محمد على حتى منتصف التسعينيات عندما تم فتح إدارة الدولة على بيزنس الأنجال!
هذه العقيدة الاقتصادية المؤسفة، تنظر إلى الدولار بوصفه سلعة يمكن توفيرها من خلال المنح والمساعدات التى تزيد من إغراقنا اقتصاديًا وتكبيلنا سياسيًا.
ولا نجاة لمصر دون تغيير هذه العقيدة، والبدء فى النظر إلى الدولة بوصفها أكبر من شركة مقاولات. على أن هذا التغيير لا يعنى التحول إلى دولة شيوعية كما يزعم السلفيون الاقتصاديون، بل إلى التخلى عن عبادة الصفر والتصرف دائمًا على أننا نبنى من الصفر بلدًا على مسطح من الرمال!
لا خروج من هذا النفق دون اقتصاد جديد يقوم على إعادة تقييم ما نملكه والبدء فى استثماره.
فى المجال الزراعى مثلاً، لم نتحرك بعد للاستفادة من المخلفات الزراعية، ولم نوقف إهدار ثلث إنتاجنا فى النقل، ولم نستفد من تصنيع إنتاجنا من الفاكهة بالقدر المقبول، والأدهى لم نعمل على إزالة آثار جريمة اغتيال القطن الذى كان عماد الاقتصاد الريفى إلى جانب تغذيته لصناعات عديدة: المنسوجات، الزيوت والمنظفات، وبالطبع النسيج.
وفى مجال الثروة السمكية كانت المسطحات المائية الطبيعية كافية لإنتاج الأسماك، لكننا تركناها للتلوث ويمكن إعادة تطهيرها وتوجيه الصرف بعيدًا عنها بدلاً من إنشاء مزارع سمكية جديدة. لكن وقف الصرف على النيل والبحيرات ليس كلمة تقال، بل مرهون بالقدرة على مواجهة المستثمرين يرتكبون كبيرة تلويث المياه.
لا غنى كذلك عن حصر الثروة العقارية التابعة للحكومة وإعادة تأهيلها بدلاً من بناء أخرى جديدة، كالمستشفيات مثلاً، وكذلك حصر الثروة العقارية الخاصة فى مجال الإسكان واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستغلالها، بالتوازى مع فتح المجال بشكل جاد للاستثمارات الصناعية الصغيرة، لوقف اندفاع هذه الاستثمارات نحو تخزين العقارات.
هذه مجرد أمثلة على استثمارات سحقتها عقيدة المضاربة، إذ لا يطمح هذا المقال ليكون خطة اقتصادية، بل هو مجرد إشارة إلى طريق لاقتصاد قوى، لكنه يحتاج إلى عزيمة سياسية غائبة.