من كثرة المآسى والنوازل التي تلاحقنا كل يوم صرنا ننسى من غيّبتهم عنا السجون ونتعايش مع بعادهم كأنه أمر طبيعى لأن كل سجين نتضامن معه فور اعتقاله يتبعه شخص آخر عزيز يلحق به والمؤلم أننا على قناعة تامة ببراءتهم ونبل مقاصدهم وعدم معقولية عقابهم بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية.
على شاطئ المندرة بالإسكندرية في نهاية التسعينيات كنت أمشى برفقته كل صباح نتنسم عبق الفجر ورذاذ البحر المنعش ونتبادل الأحاديث عن الأحلام والرؤى وصناعة التغيير، نشأنا معا في هذه المدينة الساحرة التي يُعلّمك بحرها الرقة والقوة والتجلد، كان الفتى متميزا في أفكاره وكبيرا في أحلامه ومؤمنا أنه سيكون صاحب أثر في هذا الوطن.
التحق بكلية الألسن جامعة عين شمس ثم غيّر مسار دراسته وعاد للإسكندرية مرة أخرى ليلتحق بكلية الآداب ويدرس علم الاجتماع، كان قارئا نهما ومحبا للمعرفة، مرت حياته بمحطات كثيرة شكلت شخصيته التي لا تعبر عن حقيقة سنوات عمره القليلة، فمن نمط التدين إلى نمط الثورة إلى نمط البحث المحفوف بالمخاطر، عرفته حوارى الإسكندرية، وأزقتها يوم 25 يناير 2011، وهو يخرج مع رفاقه من الثوار من الشوارع الضيقة في مظاهرات صغيرة تحولت لمسيرات حاشدة صنعت اليوم الثورى الأول الذي تحول لأعظم ثورة مصرية في التاريخ الحديث.
ترافقنا قبل الثورة وأثناء لحظاتها الكبرى واختلفنا بعدها، أحزنتنى تدوينات له عن شخصى رأيتها تجاوزت حدود الاختلاف السياسى وخاضت في مساحات لا تليق بأصدقاء، لكن كل ذلك لم ينه صداقة تغلب فيها مشاعر الأخوة على ما عداها، وهل يتخلى شقيق عن شقيقه الأصغر لأى سبب كان؟!
تفهم معنى الاجتهاد حين تعرف إسماعيل فحياته رحلة ارتقاء بالذات على مستوى الفكر والثقافة والحركة وهو لا يكل ولا يمًل، كان خبر اعتقاله من المطار صادما وقد جاء لزيارة والدته المريضة تلك السيدة المصرية الأصيلة التي يغمرك أدبها وكرمها وبساطتها، ليس في حياة إسماعيل أغلى من والدته فقد عاشت حياتها من أجله وزرعت فيه حب الوطن وحب الناس والعطاء والخير.
الدولة تضع إسماعيل اليوم في خانة الإرهابيين المحظورين وتتهمه بالإساءة للدولة لأنه كتب عن سيناء وما يجرى فيها، اختلف مع كتاباته ومع أسلوبه كما شئت لكنك لن تجده متعاطفا مع الإرهابيين ولا مساندا لهم بل كان يكتب عن حقيقة ما يجرى على الأرض خوفا على بلده وبهدف رغبته في تغيير أسلوب إدارة الأزمة في سيناء، إذا راجعت بعضا من كتاباته ستجد أنه توقع ما يحدث طالما لم تتغير الوسائل والاستراتيجيات التي أدت للمأساة التي تعيشها سيناء الآن.
مع كل تجديد بالحبس لإسماعيل الإسكندرانى يُصاب المرء بالإحباط لأنه يأمل أن تتغير العقلية التي ترى في الشباب خطرا على الوطن بدلا من أن تراه أملا له ومصدر قوة، سيتغير وجه الوطن وتبتسم ثناياه حين يخرج الشباب من السجون ليقودوا دروب المستقبل، مكان إسماعيل وهشام جعفر وعادل وماهر واليمانى وعلاء وكثيرون غيرهم ليس السجون، هنا وطن ضاق بأبنائه وفتح لهم أبواب السجون بدلا من أبواب المستقبل، هنا وطن ضجت أرضه بالمظالم فمتى ينتهى هذا الظلام؟.