x

وجيه وهبة سيكولوجية «الجمعة» وجيه وهبة السبت 26-03-2016 21:44


«إن معرفة سيكولوجية الجماهير هى الملاذ الأخير لرجل الدولة، لا لكى يحكمها، فهذا الأمر أصبح صعب المنال، ولكن لكى لا تتحكم هى كلية فى قراراته». جوستاف لوبون «LebonGustav».

من المفترض، فى هذه البقعة من العالم، أن يكون يوم الجمعة هو يوم لممارسة الحشود لطقوسها الروحية الدينية، قلبا وقالبا، فيكون هو يوم التسامى والسلام بكل معانيه. فى هذا اليوم، يرتدى البعض قناع التقوى والورع، يرفلون فى جلاليب بيضاء، على غير عادتهم طوال الأسبوع، وتلمع «السبح» فى الأيدى، وتلحظ وداعة ورقة وسماحة طارئة لا تتناسب مع الأصوات الزاعقة لدعاء خطيب المسجد بإهلاك اليهود والنصارى. عقب تخلى الرئيس الأسبق مبارك عن منصبه كرئيس للبلاد، تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، وذلك وفقا لقرار من الرئيس المتخلى ذاته!!. كان الموقف صعبا وخطيرا، وفوق طاقة وقدرات مجموعة من القادة العسكريين، الذين هم أبعد ما يكونون عن السياسة وأحابيلها. ورثوا نظاما مخوخا، ودولة هرمة. والمفارقة أنهم هم أنفسهم كانوا من أهم مكوناتها. كانت الملايين تحتل ميادين القاهرة وجميع ميادين المحافظات. أدار رجال المجلس العسكرى الأمور بذات الآليات الموروثة ممن سبقهم.. بذات منطق «المتخلى»، المنطق الذى اعتادوا عليه منذ ثلاثة عقود، فأين لهم من سبيل آخر، وجل خبراتهم عسكرية؟

■ الجماهيرـ بصفة عامة- هى وحش كاسر، غير مأمون الجانب، يصعب التكهن بردود أفعاله. أدار المجلس العسكرى الأمور مرتكزا على قاعدة إرضاء الجماهير.. أو كمقولة «ناصر»: «الشعب يريد وأنا معه».. بلغة السينما.. «الجمهور عايز كده».. وهل السياسة فى بلادنا إلا أفلام، وغالبيتها من نوع الكوميديا السوداء؟ الجماهير المتعطشة للعنف تنفيساً عن كل إحباطاتها مازالت تملأ الشوارع والميادين، خاصة يوم الجمعة.. لم يكفها تخلى المتخلى.. استوعب المجلس العسكرى الدرس.. درس تأخر مبارك وتباطئه البليد الكارثى فى الاستجابة لرغبة الجماهير فى التغيير. ولكن استيعاب المجلس عواقب التأخر فى اتخاذ القرار تحول إلى التعجل فى اتخاذه.. تحسبا من غضبة الجماهير.. وأصبح الأمر نموذجا كاريكاتوريا واضحا للمثل الشعبى: «اللى يتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادى»..أو «اللى تلدعه الحية يخاف من الحبل». فقبل حلول يوم الجمعة تتخذ «إدارة البلاد» قرارات متعجلة ومرتبكة.. أو تلقى على عجل للوحش الكاسر.. للجماهير.. بضحية، إذ يتم القبض على مسؤول سابق.. وزير.. سياسى.. رجل أعمال.. سواء عن حق أم عن باطل- قانونيا- لا يهم.. المهم إشباع غرائز الجماهير، خوفا من احتشادها يوم الجمعة، وما يصاحب ذلك من أعمال عنف وقطع طرق وتحويل مسارات مرورية. وأصبح «يوم الجمعة» رمز ديكتاتورية الجماهير، وابتزازها للسلطة من ناحية، ولارتعاد السلطة وارتباكها من ناحية أخرى. ولأن فى «العجلة الندامة» فليس غريبا أن تنتهى قضايا غالبية ضحايا «الجمع» (بضم الجيم وفتح الميم) و«الجمع» (بفتح الجيم وتسكين الميم) إلى البراءة. كان المشهد «سيرياليا»، فجزء أصيل من نظام مبارك يتولى الإجهاز على جزء آخر.. إجهاز.. لا مجرد تنحية. ودعك من أى شعارات أو مطالب حياتية أساسية.. أو مصالح حقيقية أو كوارث اقتصادية، تنجم عن هذا «الإجهاز».. المهم إشباع غرائز العنف الثورى.. «الجمهور عاوز أكشن».. «لا يفل الفلول إلا الفلول».. والكل يريد أن ينفد بجلده من مقصلة الجماهير.. أسد الثورة الهائج، الذى لا يمكن الهروب منه إلا باعتلائه، وهو ما فعله الجميع، وأصبح الجميع ثواراً أو «ثورجية».. خوفا من سيكولوجية «الحشد».

■«جوستاف لوبون»، (1841ـ 1931) عالم، وباحث فرنسى، يعتبر من مؤسسى علم النفس الاجتماعى وصاحب الإسهام الكبير فى التنظير له. وضع العديد من المؤلفات فى مجالات شتى، ولكن أشهرها على وجه الإطلاق هو كتابه المرجع المعروف «سيكولوجية الجماهير» Psychologie Des Foules أو «سيكولوجية الحشود»، أو الجمع أو الجموع. الصادر فى عام 1895. أافكار «لوبون» فى مؤلفاته عامة مختلف عليها.. لكل قراءته وتفسيره، سلبا كان أم إيجابا. اتهم بالعنصرية لما كتبه فى كتابه هذا، فضلا عن كتاب سبقه عن «سيكولوجية الشعوب». هاجمه البعض، وامتدحه البعض، واستفاد الجميع من كتابه «سيكولوجية الجماهير»، استخدم أفكاره جميع القادة.. من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وذلك للسيطرة على الجماهير وتعبئتها خلف أحلامهم أو خلف أوهامهم، ليقودوهم إلى قمة أو إلى هاوية. قرأه «موسولينى» و«هتلر» والاشتراكيون والثوريون بجميع انتماءاتهم. هو «ماكيافيللى Machiavelli»، أواخر القرن التاسع عشر، كان يقدره حق قدره. كلاهما لا يحمل للجماهير.. للحشود.. الكثير من مشاعر الود. ولا يعول عليها كسلطة، ولا على سيادتها، وأهلية ممثليها، فى اتخاذ القرارات المهمة الكبرى، كقرار الحرب على سبيل المثال.. لفت أنظار الزعماء والحكام، وتواصل معه بعضهم. دافع عنه فلاسفة كبار، مثل «هوركهايمر Horkheimer» و«أدورنو Adorno» نفوا عنه فكرة العنصرية، أعادوا له الاعتبار، خاصة فى قدرته المذهلة على التنبؤ.. فلقد صعدت التيارات «البربرية الفاشية» على أكتاف «الجماهير».. وحكمت «الهمجية النازية» بإرادة «الجماهير».. «حكمت قلب التنوير والتكنولوجيا والحداثة فى أوروبا.. ألمانيا!!».

■ كان «لوبون» إصلاحيا، كشف خطورة وعورات الثورات، بجميع ألوانها. لفت الأنظار إلى الدور الكبير لـ«اللاعقلانية» فى السياسة، وفى حركة التاريخ.. دور العاطفة والانفعالات والمشاعر والغرائز.. والعقل الباطن. ومحور فكرة كتابه «سيكولوجية الجماهير»، أو«سيكولوجية الحشود». هو «تلاشى وعى الفرد المنخرط فى حشد، يحرضه، محرض» والتحريض هو ما يذيب الفرد فى الجموع. يقول «لوبون» فى كتابه الذى سوف نعاود زيارته:

■ من سمات الفرد داخل الحشد: غياب الوعى، وسيطرة اللاوعى.. الاتجاه مع الحشد وفقا لتوجه التحريض والانصياع لعدوى المشاعر والأفكار، والنزوع إلى تحويلها إلى أفعال وممارسات.

■ التحريض هو ما يذيب الفرد فى الجموع ودور القائد هو كدور المنوم المغناطيسى.

■ الجماهير محافظة بطبيعتها، وتعيد ما انقلبت وقضت عليه، فتأثير الماضى عليها أقوى من تأثير الحاضر.

■ ما إن ينخرط الفرد ضمن الحشد فإنه يهبط فى سلم التحضر درجات عديدة. فهو بعيدا عن الحشد قد يكون إنسانا فردا مثقفا يعقل الأمور، ولكنه ما إن ينخرط مع الحشد حتى تقوده غريزته ويصبح بربريا همجيا، يشبه الكائنات البدائية فى تلقائيتها وشراستها، وحماسها وإقدامها البطولى أيضا، يسهل تأثره بالكلمات والصور، فيقترف من الأعمال، حتى ما هو ضد مصالحه هو ذاته، بوضوح وجلاء.

■ إن الفرد المندمج فى الحشد هو حبة رمل ضمن الرمال، تذهب بها الرياح حيث تشاء.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية