فى فيلم «درب الهوى» كان الراحل الفنان، حسن عابدين، الشخصية الوزارية الكبيرة، بمجرد أن يصل إلى بيت البغاء، يخلع نعليه وهندامه وطربوشه، ممسكاً بالصاجات، ويبدأ فى الرقص، مع هيستيريا الضحك والفرفشة، مردداً: أنا عايز أتهزأ، أنا عايز أتهزأ، معترضاً فى ذات الوقت، أو فى تلك اللحظات، على كل من يناديه بسعادة الباشا، ذلك لأنه نال الكثير من الاحترام على مدار اليوم، فمن حوله لا يعلمون كم أنه رجل نص ونص، وها قد حانت الساعة البيولوجية، التى يريد أن ينسى معها تلك الحياة الجادة، أو حياة النكد، سواء كانت فى المنزل بين العائلة، أو فى العمل بين المرؤوسين، أو حتى فى الشارع وسط العامة، ولذلك فقد أعرب عن سعادة بالغة، حينما سمع من يناديه: يا حيوان.
أعتقد أن الكثيرين ممن هم على شاكلة الشخصية التى جسدها حسن عابدين، مازالوا يعيشون بيننا، تستهويهم حكاية التهزىء هذه فى صور كثيرة، ولأنهم فى الأصل يستحقون اللعنة على مدار اليوم، فهم يبحثون عمن يحقق لهم هذا الهدف، عمن يقدم لهم العلاج، بنفس طريقة حسن عابدين «يا حيوان»، هو مرض بالتأكيد لا دخل لهم فيه، ربما كان عليهم أن يعالجوا أنفسهم مبكراً، إلا أننا اعتدنا فى مجتمعنا الخجل من مثل هذه الأمراض، تماماً كما اعتاد الطبيب أن يخجل من الذهاب إلى آخر، ما بالنا إذا كان الطبيب هو المريض بمثل ذلك المرض، أو بمرض عقلى مثلاً، هى إذن مشكلة كبيرة.
لنا أن نتخيل أن شخصاً ما يبحث عمن يحقق له هذا الهدف الغريب، وهو السب واللعنة له ولأهله، لمن رباه ولمن حملته فى بطنها، هو إذن سوف يستريح نفسياً، ربما يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك فى بعض الحالات، وقد يطلب بنفسه ما هو أكثر، فى ظل حالة التوتر العصبى والخلل العقلى، وخليط الوصاية على المجتمع، والأمر والنهى، أعتقد أن تلبية رغباته فى هذه الحالة واجب وطنى، لا يجب أن نتأخر عنه لأى سبب، بداية قلنا إننا أمام مرضى يستحقون العلاج.
تذكرت هذا الفيلم، وهذه الحالات المشابهة، وأنا أتابع واحدا من هؤلاء، بدا أنه يعيش هذه الحالة فى أبشع صورها، هو يبحث طوال الوقت عمن يلعنه، ويشتاق إلى من يجرسه، ويسعى إلى من يصب عليه وعلى أهله اللعنات، فهو اعتاد كما نقول بالعامية فى مجتمعنا جر شكل الآخرين دون سبب معلوم، ومرّة تلو الأخرى، لكن دون عناء كبير توصلنا إلى السبب المباشر، الرجل يعشق التهزىء، يهوى المرمطة، لا أحد ممن حوله يستطيع إثناءه عن غايته أو هوايته، هم أيضاً على صلة كبيرة بمثل هذه الأوضاع، ويعلمون تماماً أنه المرض اللعين «اللى ما يتسمى».
قد يكون هناك خلط فى مجتمعنا أيضاً بين هذه النوعية من الأمراض وبين غيرها من أنواع الأمراض المخجلة الأخرى، حيث الأعراض متشابهة إلى حد كبير، وهذه كارثة أخرى، حيث لن تستطيع تلبية طلب المريض بسهولة فى مثل هذه الحالات، لذا فهو يستمر على حالته وتشنجه طوال الوقت رغم تلبية طلبه الأول، غير مدركين أبعاد الحالة، فى ظل وجود رغبات أخرى، من الصعب تحقيقها فى مجتمعنا إلا فى أضيق الحدود، فيستمر فى الحالة العدوانية بمزيد من استعداء الآخرين.
أعتقد أن عملية جر الشكل هذه، التى تكشفهم للمجتمع، هى فرصة أيضاً لبدء العلاج الحقيقى، لندعهم إذن يتنفسوا، إلا أننا فى كل الأحوال يجب أن نكون على أتم استعداد لتلبية مطالبهم، وذلك بتقديم العلاج الناجع فوراً، وبجرعات مكثفة، بنفس الطريقة التى ينشدونها، إن شفاهة أو كتابة، إن نظرياً أو عملياً، وقد تكون فرصة لتقديم العلاج لكل ذويهم، هى إذن نظرية العلاج الشامل، حرصاً على سلامة المجتمع، كل المجتمع، وحرصاً على عدم تفشى مثل هذه الأمراض أكثر من ذلك، فقد يكون تفشيها فى عائلة واحدة، بمثابة طاعون ينتشر بسرعة الغزالة، أو حرب يصعب مواجهتها.
على أى حال، من جهتنا فقد اعتدنا التعامل مع الشدائد والصعاب، من خلال مهنة البحث عن المتاعب، ولن نتوانى أبداً عن خدمة المجتمع، فى مثل هذه الظروف القاسية، التى يعانى فيها هذا أو ذاك، وسوف نكون دائما على أهبة الاستعداد لتقديم العون، ليس لشخص فقط، وإنما لجموع من حوله أيضاً، فنحن نحمل رسالة، قوامها كشف الحقيقة مهما كانت الكلفة عالية، قوامها التنوير، وليس الطبل والزمر، فى زمن أشباه الرجال، أو بتعبير العامة، النص ونص.