هل بالإمكان تحليل الوضع الراهن فى مصر طبقاً لمصطلحين دارجين فى حياتنا: العكوسات.. والمعاكسات..؟!
ربما يكون مناسباً أن ننظر للأمور بواقعية.. لأننا دفعنا - على مدى أكثر من نصف قرن - أثماناً باهظة للأحلام الوردية والشعارات الفضفاضة، دون عمل حقيقى، أو تقدير حجم «الآخر» وقوته.. بل ودون إمعان النظر إلى أنفسنا فى المرآة..!
أقول قولى هذا، لأننى مثلك ليس لى «مصر» أخرى.. ولأننى - أيضاً - لا أجيد النفاق ولا أهواه.. ثم أنك تقابلنى فى كل مكان وفى أى وقت.. وتسألنى: إيه الحل..؟!
فى مصر الآن.. عكوسات ومعاكسات.. وفارق كبير بينهما، وإن كانا يصبان فى ذات الاتجاه..!
لا أريد أن أظلم القيادة السياسية، ولا الدوائر المحيطة بها.. لذا سأبدأ بـ«العكوسات»..!
واجهت مصر - ولاتزال - أوضاعاً إقليمية ودولية لم تخطر بذهن أحد.. وربما لو لامست «عقل السيسى» مبكراً.. لتردد كثيراً فى الترشح للرئاسة..!
أول «العكوسات»: استمرار وتصاعد العداء الأمريكى لمصر.. فعقب 30 يونيو.. بدا واضحاً أن «إدارة أوباما» انتهجت سياسة مختلفة تجاه القاهرة.. تجاهل تام للدور الإقليمى التاريخى فى المنطقة.. وإغلاق «محابس» الدعم الاقتصادى والاستثمارات «من تحت الترابيزة».. فهم - مع إنجلترا - يدركون تماماً أن الحالة الاقتصادية هى الحاكمة فى «تجربة السيسى».. وأن المصريين لن ينفجروا - سياسياً - للمرة الثالثة - بعد يناير ويونيو - وإنما قد ينتفضون - جوعاً وفقراً - فى وجه أى نظام، مهما كانت شعبيته..!
الرئيس السيسى يعلم ذلك.. ويعلم - أيضاً - أنها حرب اقتصادية.. أو على الأقل «حصار غير معلن»..!
أخطر «العكوسات»: رحيل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عاهل السعودية.. مات الرجل فى لحظة «قاتلة» لمصر.. إذ كان - برصيده وحجمه وعروبيته - الداعم الأول للقاهرة.. ليس اقتصادياً فحسب، وإنما سياسياً أيضاً!
وحتى لا نخدع أنفسنا.. لابد من الاعتراف بأن الإدارة السعودية الجديدة ليست كسابقتها فى «الملف المصرى».. وقطعاً معها دول الخليج.. غير أن التغيير السياسى فى المملكة رافقه تحول اقتصادى لم يتوقعه أحد.. فأصبح الهبوط الحاد فى أسعار البترول العالمية أخطر «العكوسات».. فكيف تطلب مصر من دول الخليج استمرار الدعم المالى، وقد انخفضت أسعار النفط إلى «الثلث تقريباً»..؟!
لاحظ أن السعودية تسحب حالياً من الاحتياطى النقدى لديها.. ولاحظ أيضاً أنها طلبت لأول مرة منذ 11 عاماً قرضاً دولياً قيمته 10 مليارات دولار.. ولاحظ - كذلك - أن الإمارات والكويت تعانيان بشدة بسبب انهيار أسعار النفط..!
«العكوسات» تلعب ضد مصر أكثر: حادث الطائرة الروسية، وقبله واقعة «السياح المكسيكيين».. ومعهما «حادث الغردقة».. ضربت السياحة فى «مقتل».. والسياحة أحد المصادر الرئيسية للعملة الصعبة.. وتضافرت معها خطة «الإخوان» وألاعيب «المضاربين» لسحب الدولار من المصريين العاملين فى الخارج من «المنبع».!
لم يصبح السؤال فى السوق المصرفية هو: الدولار بكام النهارده..؟!.. وإنما: هو فين الدولار أصلاً..؟!
طار سعر الدولار فى السماء.. فارتفعت الأسعار بمعدلات جنونية.. والدولار مثل «الكلب الوولف الشرس».. لازم «تحننه وتدلعه علشان ييجى طواعية ويجلس فى حجرك»..!
«العكوسات» كثيرة.. ولكنها تدور فى «فلك» العكوسات السابقة.. و«عكوسات الدول» لا يفيد معها «شيخ يفتح المندل».. ولا «مخاوى» يطلع نخلة ويضع «العمل السحرى» فى «مية مبلولة»..!!
«العكوسات» خطيرة.. نعم.. ولكن منذ متى والدول لا تواجه مثلها وأكثر..؟!.. المجتمع الدولى قائم على نظرية «المصالح».. ومصلحتى عكس مصلحتك.. لا مجال للعواطف.. ولا حتى الرحمة..!
«المعاكسات» أخطر من «العكوسات».. فهى قصة أخرى.. أو هى كل القصة..!
فى معجم المعانى الجامع.. يرد فعل «عاكس».. يعاكس.. ومصدره «معاكسة».. عاكس.. يعاكس.. معاكسة.. فهو معاكس.. عاكسه.. أى راده.. مانعه.. قاومه.. خالفه..!
«العكوسات» تأتى من «الآخر».. أو هى من «القدر».. ولكن «المعاكسات» تضرب من الداخل.. من الذات.. من قلب المرء أو المجتمع أو الأمة..!
فى مصر.. «معاكسات» نصنعها بأيدينا.. وهى - للأسف - تتضافر مع «العكوسات» لتصب فى ذات الاتجاه.. وربما تلعب دوراً أكبر فى «إفشال كل الجهود»..!
نحن نقول كل شىء وعكسه.. نحلم بالأمر وننفذ عكسه.. نرى الصورة واضحة أمامنا.. فنلعب فيها لتشويه التفاصيل.. نشير إلى الطريق الصحيح من بعيد.. ثم نأخذ خطوة للخلف.. ونستدير.. ونمشى فى «الاتجاه العكسى»..!
مصر اقتصادها حر.. اقتصاد سوق.. هكذا نقول.. فالقطاع الخاص هو العمود الفقرى.. ثم نتعامل مع المستثمرين ورجال الأعمال باعتبارهم لصوصاً، حى لو ثبت العكس.. رجل الأعمال لدينا لابد أن يخسر.. ويتعثر، و«يتخرب بيته».. أما لو حقق أرباحاً وتوسع.. ووفر وظائف للمواطنين.. بات ضربه حتمياً لأنه «حرامى».. «هو إزاى أساساً بقى غنى؟!.. هو إيه أهدافه وأغراضه؟!.. من يقف وراءه؟!..».
نريد.. بل نحتاج استثمارات عربية وأجنبية.. ثم نضع عراقيل وقوانين عتيقة وبالية أمام «المستثمر المصرى».. فنحن لا ندرك أن المستثمر الأجنبى لن يأتى إلينا، إلا إذا كان «المستثمر المصرى» يعمل فى أجواء صحية.. يستثمر.. ينمو.. يربح.. ويتوسع..!
نقول كل صباح للعالم كله: هاتوا فلوسكم.. هاتوا دولارات وتعالوا استثمروا فى مصر.. بينما قانون الاستثمار، الذى صدر منذ أكثر من عام، لم ينفذ بعد.. والأخطر أننا لم نقل للمستثمر القادم كيف سيخرج بأمواله بعد أن يدخل..؟!
«المعاكسات» أخطر من «العكوسات».. وإلا كيف نسعى وراء «العملة الصعبة».. بينما صادرات مصر لا تزيد على 22 مليار دولار سنوياً.. ووارداتها تتجاوز 80 مليار دولار؟!.. لم نسأل أنفسنا: من أين سندبر الفارق؟!.. لأن أحداً لم يسع لدعم الصناعة المصرية كى تحقق هدفين: إنتاج محلى جيد يوفر «فاتورة الاستيراد».. ثم يغزو الأسواق العالمية.. فيتحقق التوازن بين الصادرات والواردات..!!
قال لى رجل الأعمال البارز، رؤوف غبور، فى إحدى حلقات برنامجى: «كل ما أحلم به أن تمنحنى الحكومة ساعتين لأشرح فيهما خطة حقيقية تجعل مصر إحدى الدول المصدرة للسيارات بدلاً من إهدار العملة الصعبة فى الاستيراد!».. لم يستمع أحد لـ«غبور».. لأن حكومتنا - عكس حكومات العالم - ترى أن الجميع أعداء وخصوم ومغرضون وأصحاب مصالح.. فلماذا تجلس وتستمع لـ: نجيب ساويرس.. صالح كامل.. حسين صبور.. وغيرهم؟! ولماذا لا تقبض على «صلاح دياب» فجراً بكتيبة أمنية ملثمة..؟!!
«المعاكسات» أخطر من «العكوسات».. وإلا كيف نترك «الجهاز الحكومى» ينخر فيه سوس الفساد والترهل والجهل.. بينما نتحدث ليل نهار عن ضرورة التسارع فى الإنجاز والتقدم والتنمية..؟!
قال لى مسؤول حكومى بارز: انت فاكر إن أفكار ورؤى وخطط رئيس الدولة ورئيس الوزراء، بل والوزراء أنفسهم، ممكن تتحقق على أرض الواقع بسهولة؟!.. نحن لدينا جهاز حكومى قادر على تعطيل كل شىء وأى شىء بالقانون واللوائح إن لم يكن بالتقصير والفساد..!!
وقال لى وزير بارز جداً فى الحكومة الحالية: هل تعتقد أننى «وزير كذا...»؟! هذا غير حقيقى.. فأنا يا سيدى لا أقوى على تنفيذ خطة أو مشروع دون عراقيل و«خوازيق» من 20 جهة فى الدولة على الأقل..!
«المعاكسات» أخطر من «العكوسات».. والدليل أن الدولة تصرخ فينا وفيكم: نريد إعلاماً وطنياً ومهنياً.. ثم تدعم وتتبنى وتربى و«تسمن» الإعلاميين الأكثر إثارة وخرقاً للوطنية والمهنية.. والكارثة الحقيقية ليست فى هؤلاء.. وإنما فى الأجيال الصاعدة التى تراهم الأقرب والأكثر حظوة لدى الدولة.. والأخطر والأخطر.. أن «الصحفى الأمنى» بات مشمولاً بالرعاية والمكافآت والترقيات على حساب «الأكفأ»..! كل شىء وعكسه: الشباب هم المستقبل.. الشباب فى القلب.. ثم نتحدث معهم بلغة عمرها 50 عاماً.. وإن اعترض أحدهم.. ألقينا به فى السجن!
كل شىء وعكسه: نحن فى حرب.. الإرهاب الأسود بحاجة إلى «لم الشمل».. إلى التضافر.. والاصطفاف.. ثم سياسة على الأرض تفرق وتستبعد وتقصى..!
كل شىء وعكسه: نحن دولة ديمقراطية.. دولة مدنية حديثة.. دولة وضعت دستوراً توافقياً.. ثم نقرر من يتحدث.. ومن يصمت.. من يسود المشهد.. ومن يُقمع ويُمنع.. ومن إذا لم يقدم «كفنه» مشفوعاً بعقد وتوقيع بدمه على «النفاق» جلس فى بيته.. ويحمد ربنا إنه مادخلش السجن..!
«المعاكسات» أخطر من «العكوسات».. لأنها بأيدينا نحن.. ولأنها تضرب فى العمق.. فى النخاع.. فى الحلم الذى جمعنا.. فكان ومضة.. ثم أخذ فى الخفوت تدريجياً..!
والله العظيم.. هذه نصيحة مُخلص دون غرض أو ضغينة: القضاء على «المعاكسات» يضمن هزيمة «العكوسات».. فالحل دائماً بداخلنا.. ولاتزال الفرصة قائمة..!