x

جمال أبو الحسن إعادة الاعتبار للوظيفة العامة جمال أبو الحسن الأحد 13-03-2016 21:36


فى 1784 لاحظ أحد المُدققين أن واحداً من موظفى وزارة الخزانة البريطانية لم يحضر للعمل منذ 1744. لم يتعرض هذا الموظف المُتغيب لإنهاء خدمته. على العكس استمر فى الحصول على راتبه الشهرى طوال هذا السنوات. هذه قصةٌ حقيقية صادفتها بين دفتى كتاب The fourth revolution: the global race to reinvent the state، (الثورة الرابعة: السباق العالمى من أجل إعادة اختراع الدولة). لا أناقش هنا هذا الكتاب المُهم. ربما عُدتُ إليه فى مقال آخر. أتوقف فقط عند ما يعتبره المؤلفان مرحلة مُهمة فى تكوين الدولة بمعناها الحديث. إنها المرحلة التى تتعلق بإنشاء نظام بيروقراطى كفء ومحترف يقوم على الجدارة.

الرُكن الركين فى أى منظومة بيروقراطية هو طريقة اختيار العناصر الجديدة التى تنضم للخدمة. لسنوات طويلة كان المنصب الحكومى فى بريطانيا يُنظر له كمكافأة لأبناء الأرستقراطية. كانت المناصب تُباع وتُشترى. فى ظل هذا الوضع، لم يكن الموظف فى حاجة للعمل. بل فى بعض الأحيان، كما فى حالة صاحبنا المتُغيب منذ 1744، لم يكن الموظف يحتاج للذهاب للعمل من الأصل! قسم من الإصلاحات الشهيرة فى العصر الفيكتورى انصب على إنشاء نظام لاختيار المتقدمين للوظيفة العامة بحسب معيار الكفاءة لا الأصل العائلى. فى تقرير مُهم لسير «تريفيليان» فى 1854 لاحظ أن الوظيفة العامة صارت «مقلب نفايات» للكسالى والأغبياء والحمقى من أبناء العائلات الأرستقراطية. اقترح التقرير نظاماً مختلفاً للتعيين من خلال المُسابقات العامة، والترقية على أساس الإنجاز. هكذا وضعت بريطانيا أقدامها على طريق الدولة الحديثة. من دون منظومة خدمة مدنية ناجحة وفعالة تُصبح أى سياسة حكومية- مهما بلغت عبقريتها- مجرد أمنيات طيبة.

نظام الجدارة ليس اختراعاً بريطانياً. البيروقراطية فكرة قديمة جداً. هى منظومة صاحبت الحضارة الإنسانية منذ مولدها الأول. فى بابل ومصر القديمة ظهرت البيروقراطيات الأولى. لا دولة من دون بيروقراطية تقوم على حفظ الدفاتر وجمع الضرائب ومباشرة أعمال الإنشاءات العامة. البيروقراطية هى ذاكرة الدولة. من دونها تُصبح الدولة بلا عقل. بلا قدرة على التخطيط أو السيطرة أو التفاعل مع الظواهر الاجتماعية. البيروقراطية ارتبطت بمعرفة القراءة والكتابة والحساب. فى مصر القديمة، كانت وظيفة الكاتب من أرفع الوظائف فى المُجتمع. وبسبب صعوبة اللغة المكتوبة، كان سُر «الكتابة»- وبالتالى الوظيفة- يورث بين عائلات بعينها (أكاد أسمعك تهتف: ما أشبه الليلة بالبارحة!).

على أن البيروقراطية صار لها معنى مختلف تماماً على يد حضارة بعينها: الصين. الصين أعادت اختراع البيروقراطية. هى صاحبة إسهام تاريخى ليس له نظير تقريباً فى ابتداع نظام للجدارة واختيار الموظفين. إنه نظام يعود إلى 134 قبل الميلاد. جوهره اختيار موظفى الدولة عن طريق مُسابقة عامة يُتاح للجميع- من الذكور- خوضها. تطور هذا النظام عبر القرون حتى بلغ أوجه فى عهد دولة الـ«سونج» فى القرن التاسع الميلادى. فى هذا العهد كان النظام يجرى على ثلاث مراحل. كان يستغرق سنوات وسنوات. فى العادة لم يكن يجتاز الاختبارات سوى 1% من المتقدمين الذين كان يبلغ عددهم ما بين 20 و80 ألفاً. المرحلة الثالثة من الاختبار كانت تجرى فى العاصمة. البعض كان يبدأ الاختبارات وعمره 18 عاماً، فلا يجتازها إلا وهو فى الثلاثينيات وأحياناً فى الخمسينيات من العُمر!

يُقال إن أحد أباطرة الصين قد لاحظ أن واحداً من الناجحين لا يرقى إلى المستوى المطلوب فقرر أن يُعيد امتحان المتقدمين للمرحلة الأخيرة بنفسه. هكذا صار تقليداً أن يتدخل الإمبراطور فى المرحلة الأخيرة من الامتحان ليكتسب الأمرُ كله المزيد من الرهبة والتعقيد. وفضلاً عن ذلك، فقد كانت الامتحانات تُجرى بأرقام جلوس سرية لضمان النزاهة. بل وصل الأمر إلى تعيين كتبة لنقل أجوبة الطُلاب لضمان عدم تعرف أى من المصححين على خط المُتقدم!

هذا النظام الصينى يُفترض فيه تحقيق أعلى درجات العدالة بين المتقدمين. الغرضُ هو اختيار أكفأ العناصر للخدمة العامة. من أهداف المنظومة كذلك إشاعة روح المنافسة بين الساعين إلى المناصب. من نتائجها ترسيخ الشعور بأن العلم والتعلُم هو الوسيلة المُثلى للترقى الاجتماعى. لم يكن غريباً أن ينتبه البريطانيون إلى هذا النظام العجيب وينقلوا بعض أفكاره فى القرن التاسع عشر عندما أرادوا إصلاح نظام الخدمة العامة فى بلدهم.

لم يعد خافياً أن الكثير من المُشكلات التى تُحاصر بلدنا ترتبط بمستوى العاملين فى الخدمة المدنية وطُرق حصولهم على مناصبهم. هناك اتجاه مُزعج لتوريث الوظيفة العامة فى قطاعات تُعد الأكثر حساسية. الأخطر هو القبول بهذا وتبريره والترويج له. إلى اليوم، مازالت فكرة المُسابقات العامة لتولى الوظائف شبه غائبة وشكلية فى أحسن الظروف. الامتحان الوحيد الذى تتوفر فيه درجة كاملة من النزاهة والمساواة على المستوى القومى هو الثانوية العامة. الوظائف العامة تذهب لأصحاب الحظ لا الشطارة. الحصول عليها يعتمد على «من» تعرف، لا على «ما» تعرف.

مطلوب صياغة نظام شامل وشفاف من الامتحانات والمسابقات للوظائف العامة، وخاصة ذات الحساسية منها. مهمٌ أن تقيس هذه الامتحانات المواهب لا المعارف. القُدرات لا المعلومات. هذه هى الطريقة الوحيدة لكى نفرز أبناءنا، فنختار أفضل العناصر لأخطر المناصب وأكثرها تأثيراً فى المجتمع. الأمر لا يتعلق بالخدمة المدنية ومستواها فحسب، وإنما بشيوع السلام الاجتماعى واستقرار الشعور بين أبناء الوطن بالمُساواة فى الفرص. بتعزيز الثقة لديهم فى التعلم والجدارة كسبيل وحيد للترقى واكتساب المكانة.

المحسوبية فى مصر قديمةٌ (راجع أفلام نجيب الريحانى وقصص نجيب محفوظ!). «العائلية» فى الجهاز الحكومى ليست بدعة طارئة. الجديد هو أن الأمر زاد على الحد. أصبح يُهدد كفاءة منظومة الخدمة المدنية وصورتها لدى الناس. مراجعة هذا الوضع أولوية سياسية مُلحة حتى نُعيد الاعتبار للوظيفة العامة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية