فى منتصف ثمانينيات القرن الثامن عشر رفع السفيرُ الفرنسى لدى بريطانيا إلى حكومته مُذكرة عجيبة. توقع الرجلُ أن إنجلترا على أعتاب ثورة هائلة تُماثل تلك التى شهدتها البلاد قبل أقل من قرن من الزمان. كتب السفيرُ أن الجرائد والمنتديات تفيض بالرسوم الساخرة التى تتناول الأسرة المالكة بالنقد والتجريح. قال إن وضعاً كهذا لا يُمكن أن يستمر، وإن انقلاباً فى نظام الحكم على وشك الحدوث. نعرف اليوم أن الثورة لم تقُم فى إنجلترا، بل فى البلد الذى جاء منه السفير: فرنسا! حدث ذلك بعد سنوات قليلة من كتابته هذا التقرير. نعرف أيضاً أن فرنسا لم تكن تسمح بهذه الحريات التى تتيحها إنجلترا، بل كانت تضع الملك والأسرة المالكة فى مقام يعلو على أى انتقاد أو سخرية. فى المقابل، تتمتع بريطانيا بتقليد اجتماعى/ سياسى، راسخ ومستمر، يتيح السخرية من الحُكومة وممن يتولون المناصب العامة.
حُرية التعبير قيمة إنسانية غالية. ربما لا تعدلها قيمة أخرى. هى ترتبط بأسمى ما يُميز بنى الإنسان: الضمير. مهمٌّ أن يكون الإنسان حُراً فى اعتناق ما يراه من أفكار وآراء. ربما أكثر أهمية أن يُسمح له بالتعبير عن هذه الأفكار بحُرية. إذا اتسعت المسافة بين ما يؤمن به الإنسان فى قرارة نفسه وبين ما يستطيع التعبير عنه فى العلن، نصير أمام أزمة. أزمة ضمير. المُجتمعات التى تتبنى حُرية التعبير تُحاول معالجة هذه المُعضلة الجوهرية. تسعى لتضييق الفجوة بين ما يعتنق الإنسان من آراء، وبين ما هو مسموح له بإذاعته فى العلن وعلى الملأ. هذه المُجتمعات ليست فقط أكثر حُرية. هى أيضاً أكثر استقراراً.
نعم.. حرية التعبير مدخلٌ رئيسى لسلام المُجتمع واستقرار السُلطة.
المُجتمع المُستقر هو ذلك الذى تزدهر فيه حُرية التعبير. ليس فقط لأنه يكون لدى السُلطة فرصة كاملة للوقوف على حقيقة مشاعر الناس وأفكارهم إزاءها، ولكن لأن الناس أنفسهم يكونون أكثر انسجاماً مع ضمائرهم. يعبرون بحُرية عما يعتمل فى صدورهم، وما يدور فى رؤوسهم. هذا يجعلهم بشراً أفضل. يُربى داخلهم شعوراً إنسانياً نبيلاً بالكرامة والرضا عن الذات. حرية التعبير هى صورة من صور الكرامة.
لا يعنى هذا بأى حال أن الأمر هين. حرية التعبير شأنٌ جد خطير. المُجتمعات الإنسانية عرفت مُبكراً خطورة الكلمات. الكلمة يُمكن أن تودى بحياة إنسان، بل بحياة الآلاف والملايين. يُمكن أن تهدم نظاماً اجتماعياً. أولم يكن الوحى الربانى سوى كلمات ألقاها الرسول الكريم على مسامع الناس فى مكة فلانت لها القلوب ثم تصدعت لوقعها الجيوش والعروش؟ أولم يكن المسيح سوى كلمة ما لبثت أن سرت فى الناس حتى قوضت دعائم أعتى إمبراطورية عرفها البشر؟
لهذا السبب دأبت المجتمعات على تحصين نفسها من الكلمات. من تأثيرها الساحر و«المُدمر»-إذا ذاعت بين الناس- على استقرار النظم. بإمكاننا النظر إلى التاريخ البشرى باعتباره حلقات متصلة من قمع حُرية التعبير. لم تنجُ دولةٌ أو حضارة من ممارسة هذا القمع. كان الهدف دوماً هو صيانة النظام العام وحماية المؤسسات التى تُعبر عنه، دينية كانت أم سياسية. التاريخ الإسلامى على سبيل المثال زاخرٌ بالحوادث التى تدخل فى باب قمع حُرية الرأى. ربما أشهر هذه الحوادث ما يُعرف بمحنة خلق القرآن فى عهد المأمون. للكنيسة الكاثوليكية بدورها باعٌ طويل فى القمع. ربما تميزت الكنيسة عن غيرها بـ «مأسسة» قمع حرية الضمير فيما يُعرف بمحاكم التفتيش.
أزمة المجتمعات مع حرية التعبير قديمة إذن. باستثناء فترات قصيرة وشاذة من الاستنارة والتسامح –كما الحال فى أثينا فى القرن الخامس قبل الميلاد والأندلس بداية من القرن التاسع الميلادي- فإن الأصل كان المنع لا التسامح. الحظر وليس الإباحة. لقد قطع البشرُ طريقاً طويلاً ومتعرجاً قبل أن تظهر مجتمعات تتبنى حرية التعبير كطريقة حياة. هذه المجتمعات –على وجه التحديد- هى التى صنعت النهضة العلمية والحضارية لعالمنا المعاصر. ليس صدفة أن هذه النهضة تبلورت فى بريطانيا أكثر من أى مكان آخر. برغم أن جاليليو هو أبو العلم الحديث، إلا أن النهضة العلمية والصناعية وُلدت فى بريطانيا وليس فى إيطاليا. السبب بسيط: جاليليو تعرض لمحكمة تفتيش، بينما نيوتن استطاع أن يُمارس أبحاثه بحرية كاملة.
تعيش مصر اليوم أزمات مختلفة المشترك بينها هو قضية حرية التعبير. هناك مثقفون يقضون محكومية بالسجن بسبب أفكار عبروا عنها أو آراء أذاعوها. هناك أطفال أقباط حُكم عليهم بالسجن بتهمة ازدراء الأديان. ثمة إشارات لا تخطئها عين لضيق صدر السُلطة الحاكمة بالرأى المُخالف. هذه بوادر تُزعج ولا تطمئن.
استقرار الدولة لا يتحقق فقط بقوة مؤسساتها السيادية. هذا جانبٌ مهم، ولكنه –بالقطع- ليس الجانب الأوحد. كم من دول بدت مؤسساتها راسخة مستقرة، ثم ما لبثت أن صارت أثراً بعد عين. لنا فى الاتحاد السوفيتى ودول أوروبا الشرقية عبرة. الاستقرار يتحقق بشيوع حالة من السلام والرضا بين المجتمع من ناحية، والسلطة الحاكمة من ناحية أخرى. لا يسود هذا السلام إذا اضطر الناس إلى إخفاء حقيقة مشاعرهم وآرائهم، أو إذا ضاقت السُلطة بما فى صدورهم من نقد أو سخرية.. مهما كان النقد لاذعاً أو بدت السخرية قاسية.
ما زال أمامنا شوط طويل حتى ننعم بمجتمع يتسامح مع حرية التعبير بكل صورها. هذا مفهوم. على أن مصر –بمجتمعها المتنوع نصف المُنفتح- لا يُمكن أن تُغلَق «بالضبة والمفتاح»، أو أن تُؤمَمَ وتُكمَمَ «بالشمع الأحمر». هذه وصفة لتوتر لا استقرار. طريق لفوضى مؤجلة، لا لنظام مستديم وراسخ.
مطلوبٌ معادلة سياسية أكثر تسامحاً مع الآراء المختلفة ووسائل التعبير عنها. معادلة تناسب الحالة المصرية التى تكونت خلال ما يربو على أربعين عاماً من العيش فى «مجتمع نصف مفتوح».