هل يعلم الذين يُكثرون من الفتوى بغير عِلْمٍ، وغير صِفَةٍ، أنَّ الذى يُفْتِى هو نائبٌ عن الله؟
وهل يُوقنون أَنَّهم مسؤولون غدًا، وَمَوْقُوفُون بَيْنَ يديه؟
وهل يعلمونَ أنَّ الأَسْلاَف كان من عادتهم أن يَحْذَرُوا من الفُتيا، وكان الأنصار من أصحاب الرسول يردُّون أيَّةَ مَسْألةٍ يُسْألون فيها إلى بعضهم البعض ؛ حتَّى ترجعَ إلى الأوَّل، مخافةً وخشيةً وحذرًا من الوقوع فى الخطأ، وكانوا يرتعدون وهم يُقَّلِّبُونَ إحدى المسائل على أكثر من وجهٍ، وليس كما نرى الآن من سيل الفَتَاوى، التى أغلبها ما تقولُ بالتحريم والتكفير، كأنَّ ما يفعله المسلم فى ليلِهِ ونهارِهِ ليس سوى الكفر والخروج من المِلَّة.
فكان مالك بن أنس يقول: «من أَجَابَ فى مسألةٍ، فينبغى من قبل أن يجيبَ فيها أن يَعْرِضَ نفسه على الجنَّةِ أو النَّارِ، وكيف يكونُ خلاصُهُ فى الآخرةِ، ثم يجيبُ فيها».
فى حين نرى شيوخًا كثيرين ربَّما يٌفْتُونَ فى السَّاعةِ الواحدةِ – وعلى الهواء مُبَاشَرَةً – عشرات المسائل، التى كانت الواحدة منها فى أيَّام السَّلف الصالح – الذى ينتمى إليه بعضهم زورًا- تأخذ الكثير من البحث والاستقصاء والعرض والتداول والتشاور، قبل أن يبت أحدهم فيها؛ كى تكونَ مشفوعةً بالصلاح فى الجواب، فلا يُقْدِمُ على الفتوى إلاَّ من بَلَغَ مرتبتها. ومع ذلك سنجد أن التاريخَ الإسلامى – قديمًا وحديثًا – قد حفل بآلاف الفَتَاوى التى كَفَّرت علماء وفقهاء وأئمةً وَقُضَاةً وكُتَّابا وشعراءَ ومفكرينَ، وبسببها سِيقوا إلى القتلِ، حتَّى يَظُنَّ المرءُ عندما يقرأُ فى هذا الباب، أن الشيوخَ متفرغون فقط لملاحقة أصحاب الرأى والإبداع.
ولعلَّهُ فى عصرنا الحديث مع انتشار التكنولوجيا، وتقدُّم وسائل الاتصال الجماهيرية انتشرت الفتاوى وازدحمت بها رؤوسُ «الشيوخ» المعاصرين، وربَّما لو أجرينا إحصاءً بما أفتوا به خلال سنةٍ واحدةٍ، لَفَاقَ ما أفتى به فقهاء الإسلام خلال مئاتٍ من السّنين، مع الفارق أن القدماء كانوا راسخينَ فى العلم، متواضعين لله، مُتَذَلِّلينَ فى مرضاته، «لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقِّرون مَنْ دُونهم» مثلما نرى فى زماننا هذا.
فأصلُ العلم خشيةُ الله، والاغترار به جَهْلٌ ؛ ولذا يرى العارفون من العلماء أنه ينبغى على المفتى «أن يكونَ مربيًّا قبل أن يكونَ مُفْتيًا، يعلم ما ينبنى على الفتوى من مصالح ومفاسد، ويُجْهِدُ نفسه فى هداية الناس، وليس مُلْزِمًا بذكر الحكْم الشرعى إذا خاف مَفْسَدَةَ على السائل».
وهؤلاء الذين «يفتون» أو «يجتهدون» فى الفتوى، هل تنطبق عليهم شروط الفتوى أو الاجتهاد، هل هم علماء بآيات الأحكام من القرآن الكريم، وبأحاديث الأحكام من السُّنَّة، وهل هم علماءٌ باللُّغة العربية، وأصول الفقه، ومسائل الإجماع حتَّى لا يخالفوها، وهل هم حَقًّا عادلون وعقلاء ومسلمون الإسلام الصحيح، خُصوصًا أننا رأينا كثيرينَ مِمَّن يمارسون الفتوى فى زماننا يَكْنِزُونَ المال، ويستعرضون جاههم وقوتهم، وتأثيرهم، وشعبيتهم، كَأنهم فى حربٍ ضَرُوسٍ، ولا يتحلُّون بِسماتِ العلماء والفقهاء، وعلى رأسها الورع والتقوى والتواضع والسماحة والبشاشة.
ومن يجتهد فى زماننا فى الكتابة والفنون عمومًا، أو حتَّى فى مجالات الفكر الإسلامى، يتصدَّى هؤلاء «المفتون» – الذين هم يختلفون مع المجتهدين من الشُّعراء والكتَّاب والمفكرين- ويرمونهم بالردَّة والكُفر، رغم أن «المفتين» يعلمون علم اليقين أن الحرية المطلقة للرأى كفلها الإسلام، وتعدُّ أحد المبادئ الأساسية فيه، منذ ظهوره، وقد طبَّقّها الرسول وبعض الخلفاء الراشدين، وظلَّت هذه الحريةُ مُصَادرةً فى عصورٍ كثيرةٍ (بدءًا من الدولة الأموية وحتَّى أيامنا هذه)، وهذا ما يريد أن يمارسه دعاةُ الدولة الدينية، التى تحتكر كُلَّ شىءٍ، ولا تمنح أحدًا حريةَ القول أو التعبير، إِذْ هُم يُصادرون أيَّ إبداعٍ أو فكرٍ، بعد أن يسيطروا على كُلَّ مَصَادر التعبير والنشر والإذاعة والتليفزيون والصحافة، مُتذرعينَ بأنَّ المسؤولين عن هذه الأجهزة هم دُعاةُ كُفْرٍ وزندقةٍ، ويتهجمون على الإسلام، فهم لا يعترفون بالحوار والجدل والنقاش والاختلاف، وأن من يخالفهم الرأى هو من الخوارج، أو بالأحرى خَارِجٌ على الإسلام.
فباسم الدين يُصادرون الحريات، التى خُلِقَ الإنسان بفطرته النقية عليها، والذى يستطيع أن يُمَيِّز بين الخير والشر بشكلٍ عفوىٍّ شفيفٍ، لأن الإنسان وُلِدَ حُرًّا، ثم بعد ذلك له حريةُ الاختيار فى أنْ يكونَ عبدًا لفكرةٍ أو بشرٍ، وكُلٌّ ساعة الحساب يتحمَّل وزره أمام الله. (وسِيقَ الذين كفروا إلى جهنّم زُمَرًا...).. (وسِيقَ الذين اتقوا ربَّهم إلى الجْنة زُمرا...).
وهؤلاء الذين يبغون مصادرةَ حرية الإرادة التى منحها الله للإنسان فى الدنيا ليكونَ فى محل امتحانٍ، ينبغى لهم أن يعرفوا أن الله لم يَتَخَلّ عن سلطته الإلهية لهم، كى يكفِّروا البشر، الذين يختلفون معهم فى الرأى، أو يعاقبوهم، بعدما تقمصوا دَوْرَ السَّماء واغتصبوا دَوْرَ الله، مُنكرينَ أن هُنَاك حِسَابًا فى الآخرةِ، وأن هُنَاك يومًا اسمه «يوم الدين»، «وإن جادلوكَ فَقُلْ الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كُنْتم فيه تختلفون) الحج 68 – 69.
ولهؤلاء «المفتين» و«دعاة الدولة الدينية» أقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهُدَى) الأنعام 35.
..............
فلسنا مُتماثلينَ، أو متشابهينَ، أو نُسَخًا مكرَّرةً، لقد خلقنا اللهُ مختلفينَ، فأصابع اليد الواحدة فى الجسدِ الواحدِ مختلفةٌ، ولسنا آلاتٍ أو برامجَ، بل كُلٌّ لَهُ لَيْلاَهُ التى يُغَنِّى لها، فلماذا يأتى شركاءٌ لنا فى الوطن والدم والاسم والدين، يطلبون مِنَّا أن نكونَ صورًا مَنْسُوخَةً، فى برنامج واحدٍ، نقرأ كِتَابًا واحدًا، وَنُقَبِّل يَدَ رَجُلٍ واحدٍ، رغم أنَّ اللهَ خَلَقَنَا – جميعًا – أحرارًا مُنْذُ الميلاد، ولسنا أبناءً لطاعةٍ مُطْلَقَةٍ، ولا نحتاجُ إلى مُرْشدٍ؛ ليقودَنَا إلى أرواحنا وعقولنا ونفوسنا.
لنا آراءٌ مختلفةٌ ومتباينةٌ ومتفاوتةٌ ومتضادةٌ ومتضاربةٌ، وهذه سُنَّةُ الحياة مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها.
هل عندما أُقَرِّر أن أكونَ مُخْتَلِفًا، فهل أنا مُجْرِمٌ، أَوْضَالٌ، أو زنديقٌ، أو كاَفِرٌ، أو خَارِحٌ من الدِّين أو من الصَّفِّ؟
سنحيا مختلفينَ، وسنموتُ مختلفينَ أيضًا، وتلك طبيعةُ البَشَر، إِذْ لهم حُرَّيةُ الاختيار والتعبير، ومن يَقفُ ضِدّ ذلك، هو بالفعل يخالفُ سُنَنَ الطبيعة (ولا يزالونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَنْ رَحم رَبّك ولذلك خَلَقهمُ) – هود 118: 119-، وَكُلٌّ يعرفُ الصَّوابَ مِنَ الخَطَأ، الحقَّ مِنَ البَاطِلِ، أن يعترضَ على سُلْطَةٍ ما، سواء أكانت سياسية أم دينية؛ فليست إحداهِما معصومةً من النَّقْدِ والنظر إليها بعينِ الارتيابِ والسُّؤالِ والشّكِّ والمساءلةِ.
ليس هُنَاك مُسَيْطِرٌ عَلَى العَقْلِ وَالقَلْب حَتَّى لو كان النبى مُحَمّد عليه الصلاة والسَّلام (لَسْتَ عليهم بِمُسَيْطِر)، فَكُلُّ إنسانٍ – على هذه الأرضِ – لَهُ حُريَّةُ المشيئةِ فى الاعتقادِ والاختيارِ، وَأَظُنُّ أَنَّ القرآنَ مَلىء بالنُّصوصِ التى تُؤَيِّدُ ذلكَ صَرَاحَةً، لأنَّهُ كِتَابٌ يُعْلِى من شأن الحوارِ وَالحُريَّةِ، فإذا كَانَ الله لم يجبر أحدًا على فِعْلِ شىءٍ، بل تَرَكَ الأَمْرَ مَفْتُوحًا، فقط بَيَّنَ الثوابَ والعقابَ، الجنَّةَ والنَّارَ، بِلاَ إكراهٍ أَوْ إِجْبَارٍ. إِذْ لا كهنوتَ فى الإسلامٍ، بينما نجدُ التنظيماتِ والجماعاتِ الإسلاميةَ تُصِرُّ على تكفيرِ من يختلفُ مع أهدافها، وَتُخْرِجُهُم مِنَ الدِّين باعتبارهم ضَالِّينَ مُرْتَدينَ، فى حين أَنَّها لا تَعْقِلُ وَلاَ تُبْصِرُ.
فلماذا تريدُ تلك الجماعاتُ تَعْطِيلَ العَقْلِ، وَمَنْحِهِ إجازةً من التفكيرِ، وَمُصَادرة الحقوق التى منحها الإله الخالق لعبيدِهِ؟