هل عصر الحرية الأجمل- الذى لم أعشه على أرض مصر- قد وَلَّى وَأَدْبَرَ، قَبْلَ أن يأتى، وَذَهَبَ إلى غير رجعةٍ؟
هل نعيشُ الآنَ عصرَ ملوك الطوائف، كُلّ طائفةٍ لها كتابُها، ودينُها، وعقيدتُها، ومذهبُها، وناسُها، وَمُفْتُوها، ولن يلتقيَ هؤلاء الملوكُ أبدًا على كلمةٍ سَوَاء؟
هل لا بد من البحث عن مُنْقذٍ؛ كيْ لا نذهبَ إلى الضَّلالِ والِفْتَنَةِ، خُصُوصًا أنَّنى أرى مُقَلِّدينَ وليس فقهاء، يحسبون أنفسهم حُمَاةَ الديارِ والأهلِ والدِّينِ، وهم فى الحقيقةِ لا يمتلكون المؤهلات التى تؤهلهم للذود عن شىءٍ؟
وهؤلاء المقلِّدون فى كُلِّ عصرٍ، ينعمونَ بالسُّلطةِ، ويتقربونَ من أُولى الأمر مِنَ الحكَّام، والسَّلاطينِ، والملوكِ، ويمارسونَ لعبتهم المُفَضَّلة التى تتكرَّر فى كل عصرٍ، لكنَّها تختلفُ فقط فى أسماء الممارسين، وأسماء الحُكَّام.
ومع هؤلاء المقلِّدين، عادةً، ما يتمُّ التنكيلُ بذوى العقل فى الرأى، من فلاسفةٍ وشعراء ومتصوفةٍ، إِذْ يتم اضطهادهم؛ لأنَّهم ذوو أُفقٍ مفتوحٍ، ولا سقفَ لرؤاهم، وهو أمرٌ لا يُعجِبُ المتزمتينَ المنتفعينَ، الذين لا يعرفونَ كيف يَشُقُّونَ طريقَهُم إلى المعرفةِ والعلمِ، ويضايقهم أن يروا غيرهم يُنْتِجُون ويعلو شأنهم بسبب أفكارهم، وليس بسبب تَقَرُّبهم من سلطانٍ جائرٍ ظالمٍ.
لا يتساوى الذين يَسْعَوْنَ إلى المعرفةِ، مع الذين يَسْعَوْنَ إلى باب السُّلطان. ففى الأول نرى رجالاً شجعانًا يُؤسِّسون ويبنون، ولا يُؤثرون السَّلامة، وفى الثانى نرى حاصدينَ للمالِ والشُّهرةِ الزائفةِ.
فى الأوَّلِ نرى عقولاً قَلِقَةً تُفَكِّرُ وتحلم بجمهوريةٍ فاضلةٍ، وفى الثانى نرى من يريدون التخلُّصَ من كل يدٍ تبنى، وَعَقْلٍ يرى، وقلبٍ يُبْصِرُ، وقد رأينا أشكالاً شَتَّى للتخلُّص من الذين نختلفُ معهم تبدأُ بالنَّفى والإقصاء والحذف من الصُّورةِ، ولا تنتهى إلاَّ بالقَتْلِ بعد التكفيرِ، وإصدارِ فَتَاوى حتَّى يكون القَتْلُ مُبَرّرًا، ومطابقًا للشريعةِ الإسلاميةِ من وجهةِ نظرهم الضيِّقةِ، والمُغْلَقَةِ، حيث يريدون أن يعيش الناسُ فى جَوٍّ كُلُّهُ كَدَرٌ، واضطرابٌ، وضغينةٌ، وحقدٌ. فالإساءة عند هؤلاء أجدى من الإحسان، والتحريض طعامهم، واتهام الآخرين بالإلحادِ والزندقةِ والكُفرِ شرابهم، والقتل لديهم أيسر السبل للحوار والجدل.
ففى جَوٍّ يكثرُ فيه التشكيكُ فى العقائد، ويعمُّ الاضطرابُ، لا يمكن لفيلسوفٍ أو شاعرٍ أو صوفيٍّ أن يَشْتَغِلَ أو يكتبَ؛ إِذْ إنَّ رُوحَه مُهَدَّدةٌ، وحياته قاب قوسين أَوْ أَدْنَى من القتل، الذى لَهُ صُورٌ شتَّى عِنْدَ أصحاب تيار الإسلام السياسى.
ولا تتبدَّى معالم وهن وضعف وَسُقُوط وهزيمة وطنٍ إلاَّ مع استشراءِ التخوين والتكفير، وبثّ الفتن، وليس سقوط الأندلس ببعيدٍ عن أذهاننا، حيث تمَّ إفساح المجال أمام الفقهاء والمحدثين، الذين كانوا يدسُّون أنوفهم فى كُلِّ أمر يخُصُّ دولتهم التى سرعان ما انهارت، وقد حاول كثيرون من فلاسفةِ ومفكِّرى الأندلس أن ينقذوا الدولةَ من السُّقوط لكنَّ الوقت كان قد فات، ولا ينسى التاريخ ما تعرضوا له من عذاباتٍ وآلامٍ وقتلٍ، وحرقٍ لكتبهم ومنهم ابن باجه الذى قُتِلَ مسمومًا، وابن طفيل، وابن رشد وابن خلدون وابن حزم، ومالك بن وهيب الإشبيلى، الذى أَضْرَبَ عن إعمال ذِهْنِهِ، والتكلُّم فى الصناعةِ الذهنيةِ «لِمَا لحقه من المطالبات فى دمه بسببها».
ويا ويل أمةٍ ينتصرُ فيها أهل السَّلف على الفلاسفةِ، وينسحب المبدعونَ الخلاَّقونَ الأحرارُ من المشهدِ، مؤثرينَ السَّلامة، ذاهبينَ إلى سماء الصَّمت.
فلا شىءَ ينهضُ إلاَّ بالنَّظر إليهِ، ومساءلتهِ، ونقدِهِ، وتقليب مسائلِهِ، وإعادة صَوْغِهِ، والإسهام فى بنائِهِ، لأن «لكل مُتَحَرِّكٍ مُحَرِّكٌ» كما يقول أرسطو، وحُبَّ المرء الحر للحقيقةِ أعظم من أيِّ حُبٍّ آخر.
لا أريد للفكر المثالى أن ينهزمَ فى بلادى أمام اللِّحى، ولا أن يفشلَ الفلاسفةُ والشُّعراءُ والكُتَّابُ فى النهوض بهذا الوطن، أمَام أفكار الرمال القاحلة العقيم، ولا أن ينعزلَ العَقْلُ فى قوقعةِ الفراغِ الممتلئةِ بالترهاتِ وهوامشِ الأشياءِ، فلم يُضِع تقدُّم هذه الأمة إلاَّ انتشار كراسات الهوامشِ والشُّروحِ على أمهات المتونِ والمراجعِ، وتلك هزيمةٌ نكراءُ ما نزال نعانى منها لقرونٍ أخرى مقبلة.
فما زلتُ أحلم بإنسانٍ كاملٍ فى مُدنٍ لا مرئيةٍ، تكونُ تامَّةً لا نقصانَ فيها، هى الفاضلةُ، تتصالحُ فيها الفلسفةُ مع الواقعِ المعيش، وما وراء الأشياء مع الأشياء، وما وراء الطبيعةِ مع الطَّبيعة.
أعرف أن كُلَّ إنسانٍ حُرٍّ يخلُق جمهوريته الفاضلةَ فى ذاتِهِ، ويتحصَّن بجوهرِهِ، لكنَّه لا يريدُ أن يعيشَ غريبًا، أو متوحِّدًا، أو بعيدًا عن حُلم الجمهوريةِ الأسمى والأكمل والأتمّ لأهلهِ وناسهِ وعشيرتِهِ ومن لا يعرفُ من بشرٍ يشاركونه الحلم والجغرافيا والتاريخ، والولاء للهواء والماء والتراب والنَّار.
فسعادة المفرد، تُؤدِّى- حتمًا- إلى سعادةِ المجموعِ فى إطارِ فرحِ الجمهوريةِ بالتحقُّقِ و«صواب التدبير».
فلا تتأسَّسُ المدينةُ إلاَّ على العقلِ، وإنْ تأسَّست على غيرِهِ، فهى مدينةٌ جَاهِلةٌ، يسودُهَا التغلُّب (الديكتاتورية).
وأنا – ومعى كُلُّ عقلٍ حُرٍّ- أحلُمُ بمدينةٍ جماعيةٍ (ديمقراطية)، تبتعدُ عن المدن الإمامية (الدينية، الكهنوتية،....)، يعلو فيها الفيلسوفُ على الإمام، أو المرشد، أو أهل السَّلف.
■ ■ ■
ومن لم يعلم، لا يستطيعُ أن يجيبَ عن مَسْأَلةٍ من المسائل أيًّا كان قدرها، والمسائل بشكلٍ عام تتفاوتُ تِبْعًا للمصلحةِ والهدفِ والغرض من طرحها على العارفِ أو العالمِ أو الفقيهِ أو المُفْتى الذى يُبينُ المُشْكِلَ من الأحكام.
ومن لا يعرفُ، لا ينبغى لَهُ أن يُفْتىِ فى أَمْرٍ مهما صَغُرُ شَأْنُهُ (الشُّؤونُ الصَّغيرةُ أراها دومًا كبيرةً).
لكنْ فى مصر، ومع تعدُّد جماعات الإسلام السياسى، واختلاف رؤاها، وتباين مفاهيمها واختلاطها، وانتشار أنصاف الفقهاء، جعل الفَتَاوى أمرًا يسيرًا، بحيث ازدحمت السَّاحةُ بها، وَكُلُّها تُحرِّم، وَتُجرِّم، وَتُكَفِّر الكُفْرَ الصَّريحَ، مُسْتَنِدَةً إلى الخلافِ فى التوجُّه أو الرأى، فما دام المرءُ لا يتفق معهم فى فهمهم للدين، فمن الواجب تكفيره، والتشهيرِ بِهِ، وتشويه سيرته، و«المفتي» منهم قَادِرٌ على أن يستندَ فى دقائقَ معدوداتٍ إلى عشرات من النصوصِ التى يستخرجها من بطون كتب السلف الصالح والتى يستطيع أيضًا مُفْتٍ آخر أن يفنِّدَها فى دقائقَ معدوداتٍ، مستندًا إلى نصوصٍ أخرى مناهضة أو معارضة أو نافية أو مضادة للنصوص التى رجع إليها «المُفْتِي» الأول.
وهؤلاء «المفتون» يُفْتون عادةً لصالح الجماعة، أو المرشد، أو السلطان، أو الملك، أو الرئيس، أو لأيِّ وليٍّ للأمرٍ، فى أيَّ عًصْرٍ، وفى أيِّ مَكَانٍ.
فالفتوى – فى السياق الذى أتحَدث فيهِ – دومًا تَتَأرجحُ بين: الخروج من الإسلام، وإباحة الدم، والكُفر الصَّريح.
والفتوى مُلْزِمةٌ عندهم، وينبغى البحث عمن يُنَفِّذها [اغتيال فرج فودة (1945 – 1992م)، محاولة اغتيال نجيب محفوظ (1911- 2006م)، وتكفير الكثيرين من الشعراء والكُتَّاب والمفكرين الذين ربَّما ينتظرون الاغتيال]، و«المفتي» يوقِّعها نائبًا عن الله سبحانه وتعالى، وهى حكم شرعيٌّ صادر من «مُفْتِي» الجماعة أو التنظيم، أو أى مُسَمَّى آخر، وللأسف لا أحدَ من هؤلاء الذين يروْنَ أنفسهم رأسَ الإسلام يعرفُ أنَّ الفتوى أَمْرٌ جليلٌ وخطيرٌ ولها منزلةٌ عظيمةٌ فى الدين، ولا ينبغى للمرء أن يتلاعبَ بها، وفقًا لمعتقداتِهِ، وأفكاره، وآرائِهِ الأيديولوجية، ولا يعرفون - أيضًا- أنَّ النبيَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يتولَّى - من مُقْتَضَى رسالته- أَمْرَ الفُتيا بنفسه منذ أَنْ نَزَلَ الوحى.
ولذا رأينا زَلَلاً واعوجاجًا وانحرافًا عن الطَّريق القويم فى السَّنوات الأخيرةِ، فلا «مُفْتي» العصر له مَوْقعٌ بين الله وبين خَلْقِهِ، لينظرَ كيف يدخلُ بينهم، لأنَّه - ببساطةٍ- لم يُؤْت العلم الكافى للفصل فى المسائل، كما أَنَّهُ يُصدر فتاواه، من موقع المختلفِ والمناهضِ للآخر فى المجتمع الذى لا يتوافقُ مَعَهُ، وليس من زاويةِ نظرٍ مستقلةٍ لوجه الله. فهو غير قادر على الترجيح، ومن ثم فعمله مُحَرَّمٌ، بل هو آثمٌ، لأنَّ ثمةَ شُبهةً وَغَرَضًا من وراء فتواه، ضد شخصٍ بعينِهِ، أو فريقٍ، أو تيارٍ، أو اتجاهٍ، أو مَذْهَبٍ، أو مُعْتَقَدٍ.