حكايتان شهيرتان عن شخصيتين عظيمتين فى القرن العشرين يتم الاستشهاد بهما كثيراً..
الأولى تُروى عن رئيس الوزراء البريطانى الشهير ونستون تشرشل إبان الحرب العالمية الثانية حين سأله المواطنون فى خضم المعارك الحربية الدائرة عن أحوال البلد وما العمل والخراب قد عم والاقتصاد متراجع والرشوة تطال الجميع تقريباً والأوضاع من سيئ إلى أسوأ، فبادر تشرشل وسأل الموجودين: هل القضاء ببلدنا بخير ولا يعتريه الفساد والرشوة، فأجابوه قائلين: نعم بخير، فقال لهم إذن لا تقلقوا على بريطانيا فهى بخير..
لم يسأل السياسى الكبير عن القوة العسكرية أو الاقتصاد مثلاً ولكنه – ومعه كل الحق – اختار القضاء ليسأل عنه. الحكاية الثانية تُروى عن الجنرال شارل ديجول رمز فرنسا الحرة حين دخل باريس بعد تحرير بلاده من الاحتلال الألمانى أثناء الحرب العالمية الثانية أيضاً، وسأل عن أحوال البلاد ومؤسساتها فأخبروه بأنها فى أسوأ حال، فسأل سؤاله الشهير: هل القضاء بخير، فقالوا له نعم، فقال قولته الشهيرة «إذا كان القضاء بخير ففرنسا بخير، فهو الدعامة الأساسية للنهوض بالدولة». خلاصة قول الزعيمين التاريخيين أن المؤسسة القضائية هى الضمان الوحيد للشعوب كى تتقدم، طالما ظلت بعيدة عن التأثر والضغوط، وهى السد المنيع الذى يضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع فلا تجور ولا تبغى..
وحتى إذا كانت الدولة تبدو متقدمة وقضاؤها فاسد، فلسوف يبقى باطنها مُتخلفا وظاهر تقدمها وهما كبيرا. لقد استشهدت بمثلين من التاريخ الحديث، ولكن المجال لا يتسع لسرد الأقوال والأفعال فى تاريخنا العريق عمن أقاموا العدل وقضوا بالحق وجعلوه نبراساً لحياتهم وحثوا عليه وأوجبوه، ولكنى فقط أذكر قول الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه «رحم الله امرئ أحيا حقاً وأمات باطلاً وأدحض جوراً وأقام عدلاً».
إننى أتوجه بسؤالى إلى السادة الأفاضل كبراء قضاة مصر فى المجلس الأعلى للقضاء وفى المحكمة الدستورية العليا: هل مؤسسة العدل فى مصر بخير؟ هل أنتم راضون عنها بدءا من معاونى النيابة وحتى مجلسكم الموقر؟ هناك لافتة كلماتها حق تقول «لا تدخل فى شؤون القضاء» ولكنها للأسف تُرفع بالباطل فى وجه كل صاحب رأى يحار فى فهم ما يجرى حوله من مهازل وانتهاكات لا تعنى شيئاً سوى أن هناك خللاً فى مؤسسة العدل واستغلالاً سياسياً لأعضائها حسب الهوى والأوامر..
وأعتقد أن من حق المرء أن يتساءل الآن: هل كان قرار إمكانية نقل خريجى كلية الشرطه لكادر النيابة والقضاء ثم التوسع فيه بشكل مبالغ فيه وغريب مفيداً لمؤسسة العدل أم ضاراً بها؟
وهل اعتبار وزارة العدل من الوزارات السيادية التى يختار رئيس الجمهورية وزيرها وتحديد اختصاصاته هو فى صالح نشر العدل وصيانة الحقوق والحريات؟ إذا كانت إجاباتكم بأنكم راضون ومطمئنون، فبالله عليكم كيف نفهم استدعاء المحامى النابه المحترم والحقوقى البارز فى مجال حقوق الإنسان نجاد البرعى للتحقيق معه لمدة أربع جلسات متتالية وجه إليه فيها قاضى التحقيق المنتدب اتهامات خطيرة لمجرد أنه تقدم نيابة عن «المجموعة المتحدة» بخطاب إلى رئيس الجمهورية أرفق به مشروعاً متكاملاً لمناهضة التعذيب واستخدام القسوة مع المتهمين، مطالباً بإصداره كقانون فى أقرب وقت ثم الإفراج عنه بكفالة؟!
كيف نفهم التحقيق والتشويه لأحد أنزه رجالات مصر وأشجعهم المستشار الجليل زكريا عبدالعزيز أحد أهم فرسان حركة استقلال القضاء التى كانت رافداً مهماً من روافد ثورة الشعب المصرى المجيدة فى 25 يناير، والانتهاء بقرار إحالته إلى المعاش؟!
هل أنتم راضون عن إغلاق مراكز حقوق الإنسان ومحاصرة نشاط المنظمات الأهلية وكافة أطياف المجتمع المدنى، خاصة تلك التى رسالتها حماية حقوق المواطن المصرى والدفاع عنه وصون كرامته؟!
هل أنتم راضون عن قرارات المنع من السفر وترقب الوصول المفترض أنها تصدر من جهات قانونية بدون إبداء الأسباب أو تحديد مدة زمنية؟!
هل أنتم راضون عن التفاوت الرهيب فى الأحكام بين الدوائر القضائية المختلفة وبين مستويات التقاضى التى يبيحها القانون بشكل جعل سمعة قضائنا فى العالم مدعاة للألم وحسرة على زمن كان؟!
هناك خلل جسيم فى منظومة العدل بمصر يا شيوخ قضائنا الأجلاء، حماة القانون وسدنته، لسنا وحدنا الذين نستشعره داخل الوطن ولكن الأمر تجاوز ذلك ووصل إلى درجة من السخرية والاستهانة بأحكام القضاء المصرى لم يعرفها من قبل..
وها هو بيان البرلمان الأوروبى الذى صدر منذ أيام قليلة بأغلبية ساحقة يدين بأشد العبارات قسوة ما يحدث فى مصر من انتهاكات تجرى كلها باسم مؤسسات قانونية ومحاكم أنتم تحملون وزر ما ترتكبه من أخطاء بل وخطايا فى حق الوطن والمواطنين..
أصلحوا مؤسسة العدل فى مصر قبل أن تنهار، ومعها ينهار كل أمل فى أى إصلاح بهذا البلد البائس.