موضوع يؤرقنى منذ فترة طويلة، ترددت فى الكتابة عنه مرات عديدة، إلى أن استمعت للخطاب الذى افتتح به رئيس الجمهورية أعمال البرلمان الجديد، والذى جاء فيه بالنص «إننا معاً سنمضى قُدماً فى مسيرتنا نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة قائمة على أسس الوطنية والعدالة والحرية».. هذا الكلام الواضح الجميل لم يلق الاهتمام الكافى من حملة الأقلام ورجال الإعلام المنتشرين فى الفضائيات والإذاعات إلا فيما ندر، لأن من نافلة القول أنه عند شرح هذا الكلام أو الغوص فى معانيه سوف يُثار على الفور السؤال البديهى: وهل ما يحدث حولنا وتتناقله الأخبار عن مشروعات والمكلفين بها واحتفالات افتتاحها وتدشينها يدل على ذلك الاتجاه للدولة؟.. إن الرئيس يركز- ومعه كل الحق- فى ضرورة سرعة الانتهاء من المشروعات التنموية فى مواعيد قياسية لأنه ليست لدينا رفاهية إضاعة الوقت، والرئيس كذلك- ومعه كل الحق- يرغب فى أن يتم ذلك كله بأقل سعر ممكن وبأفضل درجات الجودة نظراً لظروفنا الاقتصادية الصعبة..
ولكن للأسف فإن الرئيس- ولست معه- يتصور أن تحقيق ما يهدف إليه ويطمئنه، لابد أن يكون تحت هيمنة المؤسسة العسكرية وضباطها وأفرادها، باعتبارها كما يتردد دوماً مدرسة الوطنية المصرية. من الواضح أن الرئيس بحكم انتمائه القوى للمؤسسة العسكرية التى قضى فيها جُل حياته التعليمية والعملية، يضع ثقته كلها فيها وفى الرجال الذين يعرفهم منها، ولكن هذا لا يجب أبداً أن يكون سبباً لأن يتصور الرئيس أن القوات المسلحة فقط هى وحدها مدرسة الوطنية المصرية، ومن ثم الوثوق فيما تقوم به من أعمال يكلفها بها.. فحب الوطن والعمل على رفعته وإعلاء شأنه والتضحية فى سبيله يتميز بها ملايين المصريين الذين لا يمكن أن يكونوا جميعهم خريجى مدرسة واحدة.. والتاريخ المصرى القريب يزخر بأمثلة لا حصر لها من الوطنيين المصريين من مختلف المهن، الذين على أكتافهم وبعقولهم وسواعدهم ومواهبهم احتلت مصر موقع الريادة والصدارة فى هذه المنطقة من العالم منذ عقود طويلة. عرف تاريخ مصر الحديث رجلاً مثل طلعت حرب فكان مثلاً وطنياً عظيما للرأسمالية الوطنية، فأسس أول بنك مصرى ووضع الأساس لقاعدة صناعية وثقافية عظيمة لشركات عملاقة أثرت الحياة المصرية فى جميع المجالات.. وعندما شرع الزعيم عبدالناصر فى بناء السد العالى، كلف إحدى الشركات المصرية، التى بناها وطنيون مصريون مخلصون، بقيادة العمل فى إنشاء هذا المشروع العملاق، وكانت ملحمة رجال شركة المقاولون العرب، الذين واصلوا العمل ليل نهار حتى إتمام المشروع فى زمن قياسى، مضرب المثل لمهندسين وعمال مصريين يفيضون وطنية وحباً لبلدهم وتضحية فى سبيل رفعتها.. وعندما تعرضت مصر لتحدى فقدان جزء من أرضها الغالية فى منطقة طابا بسيناء، قام الوطنيون الشرفاء من رجال القانون المصريين العظماء بعمل رائع ومُحكم حتى استخلصوا لمصر حقها بكل التجرد والوطنية. إننى فى هذه المساحة الضيقة ذكرت أمثلة لمواقف من تاريخ مصر القريب تثبت أن للوطنية المصرية منابع كثيرة، منها، بلا شك، مدرسة العسكرية المصرية، ولكنها ليست الوحيدة. إننى أتمنى أن يكون ما حدث ويحدث فى مصر منذ اندلاع ثورة يناير المجيدة وتولى القوات المسلحة إدارة شؤون البلاد كما أراد مبارك، ثم ما حدث بعد ذلك من استدعاء لها لمواجهة عصابة الإخوان، وما تبعه ذلك من انغماسها فى الحياة المدنية بصورة متزايدة أمنياً وسياسياً واقتصادياً وخدمياً واجتماعياً وإعلامياً سيكون ذا مردود سلبى على مهامها الأساسية فى حماية حدود الدولة وحماية الدستور، ولنا فيما حدث عامى 1965 و1966 المثل والعبرة، وهو ما تداركه عبدالناصر ولكن بعد فوات الأوان وحدوث النكسة. أدرك تماماً، كما قلت سابقاً، أن الظروف القهرية، التى نعيشها طوال السنوات الأربع الماضية، ربما حتمت استدعاء القوات المسلحة لمهام مُحددة المدة والهدف، ولكنى أعتقد أنه من واجب البرلمان فى الفترة القادمة التحدث فى ذلك الأمر بشجاعة ووضوح وصراحة، وإن كنت أشك فى أنه يمتلك أياً منها!..
إننى أظن أن تكليف الرئيس لأحد رجالات مصر المحترمين من المدنيين، وهو د. أحمد درويش وزير التنمية الإدارية الأسبق، بالإشراف على مشروعات محور قناة السويس هو خطوة فى الاتجاه الصحيح يجب أن تعقبها خطوات أخرى فى اتجاه انسحاب الجيش من الحياة المدنية وانغماسها فى مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. هذه خطوة أساسية فى سبيل تحقيق ما قاله الرئيس عن هدف إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة.. ثقوا فى الشعب المصرى، نُخبه وعوامه، فى مواطنيه البسطاء ورجال أعماله، فى فلاحيه وعماله، وفى المهنيين من نسائه ورجاله.. ولتلتزم كل مؤسسة من مؤسسات الدولة بدورها الذى حدده لها الدستور بدون تغول سلطة ولا مؤسسة على أخرى.. هذا هو الطريق الوحيد لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، كما يعرفها العالم المتحضر.