هل صحيح ما اعتقده بيرم التونسى وهو يخاطب مصر، من أن الأحوال أصبحت عال العال وبالتالى ما الداعى من إعراضها عنه والضن عليه بما يستحق؟. لقد قال بيرم فى القصيدة الشهيرة: «يا أم الكرانك والدلتا.. حتعملى طرشا لإمتى.. ما اتغيّرت كلمة زفتى.. والدنيا راقت أحوالها». فهل صحيح أن كلمة زفتى تغيرت والدنيا راقت أحوالها؟.
لماذا إذن قالت الصحفية المصرية للممثل العالمى ليوناردو دى كابريو: وات أباوت يور فرست أوسكار؟.. ليس صحيحا إذن أن الدنيا راقت أحوالها، وبالتالى فإن ما يلاقيه ابن مصر بيرم من ظلم وهوان له ما يبرره، ووجوده فى المنفى هو الأمر الطبيعى، وزفرته الحارة مفهومة وهو يناجى مصر: «أنا اتلهيت وانخدل زندى.. ما نيش نبى الله غاندى.. إن كانت الغلطات من دى.. يكون فى عون اللى عملها».
ربما يعزى بيرم نفسه بأن الأمور قد صارت إلى الأحسن وأن رجوعه بات قريباً.. أقول ربما لأن بيرم الحصيف لا شك قد رأى مسرحية العُكش، وشهد كافة فصولها ونظر عن قرب للذين تركوا الرجل يفسق فى حق الجميع متباهياً بدرجة علمية يعلمون جميعاً أنه لم يحزها، ثم فى لحظة واحدة قالوا له إن الدكتوراه وهمية وسيادتك لا تعرف إنجليزى. بيرم يعرف أن الفرد يكون عارفاً بالإنجليزية وفنونها ودروبها ومسالكها إذا كان حبيباً للسلطة حتى لو كان ضائعاً، ثم تتم مواجهته بالحقيقة العارية التى لا يسترها لباس إذا غضبوا عليه. وبالرغم من ذلك فإن حنين بيرم يظل أقوى من علمه بالحقيقة، وهو بالتالى يفضل العودة إلى وطن النصب والشعوذة والدجل على البقاء فى مرسيليا، وهذا يفسر بالتأكيد قوله عن حاله بالمنفى: «لا سَطْل عناب يسعفنى.. ولا ابن نكتة يكيّفنى.. ما يقصف العمر ويفنى.. إلا الخلايق بعبلها». آه.. الحنين والشوق يدفعان بيرم إلى رؤية الفرنسيين مجرد «خلايق بعبلها» لم تتثقف ولم تتمدن وتتخذ شكلاً لائقا، هذا على الرغم من سابق تغزل عم بيرم فى الفرنسيات السائحات فى الشوارع، ووصفه لهن بأنهن يمتلكن نهوداً ومؤخرات رجراجة!.. الحنين دفعه لاستحضار مفردات الوطن القاسى، فتذكّر سطل العناب الذى يسعفه وقت القيظ، كما تذكر أولاد البلد ونكاتهم الحلوة التى تملأ الدماغ وتكيّف صاحبها، ثم وجد نفسه مضطراً للافتراء على الفرنسيين، وكأنك لا تستطيع أن تمتدح أم كلثوم دون أن تشتم فايزة أحمد!.
لكن على الرغم من أن النظرة الموضوعية لحالة بيرم تشى بخطأ حكمه على الأحوال التى يظنها راقت، وعلى الرغم من أن بيرم لو علم أن فريقاً للمكفوفين ذهب إلى بولندا ليشارك فى بطولة رياضية خاصة بالعميان، ثم اتضح أن اللاعبين جميعاً من المبصرين وقد تحايلوا للحصول على فيزا يدخلون بها وارسو، ثم اختفوا بعد الوصول وذابوا فى القارة الأوروبية.. على الرغم من ذلك فإن بيرم لا يسعه أن يعلق على هذه الحادثة وإلا منعوه من العودة وحرموه من سطل العناب والصحبة الحلوة، وربما من تكملة القصيدة فلم يقل: يا بلدى هجرك يكفانى.. يا عاملة قُمْع وناسيانى.. ويوم ما حارجع لك تانى.. حتبقى رجعة براسمالها.
ها أنت عدت يا بيرم.. سو وات؟.