هل يمكن محاكمة أعضاء مجلس النواب حين إقرارهم قانوناً ما، أو موافقتهم على اتفاقية ما، من شأنها الإضرار بالبلاد، أو بمستقبل الأجيال المقبلة، أم أن البرلمانات عموما فوق المساءلة، وبالتالى فعلى الشعب أن يكون فى موقف المتفرج طوال الوقت، ولا يملك حينئذ سوى «مصمصة الشفايف» وعلى أكثر تقدير الدعاء عليهم بالانتقام الإلهى، أو بأن يأخذهم ربنا أخذ عزيز مقتدر، بعد كنس عتبة السيدة زينب عليهم، كما هى عادة عموم المصريين حين الشعور بالظلم؟
جال بخاطرى هذا التساؤل المهم وأنا أتابع خبراً غريباً وخطيراً فى الوقت نفسه، وهو أن البرلمان المصرى، المسمى حالياً مجلس النواب، ولا أدرى لتغيير اسمه سبباً مقنعاً، قد وافق على قرض من بنوك فرنسية بقيمة 3.375 مليار يورو، أُكرر: ثلاثة مليارات وثلاثمائة وخمسة وسبعين مليون يورو، أى ما يوازى نحو 35 مليار جنيه.
الغريب فى الأمر أن ذلك العرض على المجلس، أو هذه الموافقة، كانت يوم الأربعاء الماضى، نفس جلسة إسقاط العضوية عن أحد النواب، وقد تمت الموافقة على القرض قبيل البدء فى التصويت على موضوع إسقاط العضوية مباشرة، فى إجراءٍ لم يستغرق سوى ثوان معدودة، على طريقة «موافقون.. موافقون».
سألت صديقى، وهو أحد أعضاء البرلمان الذين أعتبرهم نابهين من بين غيره من أقرانه: ما هو الغرض من هذا القرض؟ ما هى الضمانات التى قدمتها الدولة للحصول على القرض؟ قال: لا أدرى، فى أى المشروعات سوف يتم استخدامه؟ قال: لا أدرى، ما هى نسبة الفائدة التى سوف تسددها الدولة؟ قال: لا أدرى، كم عدد السنوات التى سوف تستغرقها عملية السداد؟ قال: لا أدرى، من أى موارد سوف يتم تسديده مستقبلاً؟ قال: لا أدرى، قلت: هل اعترض أحد من النواب على هذا القرض؟ قال: لا!
لنا أن نتخيل أيها السادة أن قرضاً بهذا الحجم، نحو 35 مليار جنيه، لم يستغرق طرحه أمام الأعضاء سوى ثوانٍ معدودة، فى الوقت الذى استغرقت فيه عملية رفع العضوية عن النائب نحو خمس ساعات، حيث كان النداء على كل نائب بالاسم، النائب المحترم، ثم اسمه ثلاثياً على الأقل، بما يعنى أن قيمة النائب، أو قيمة إسقاط عضويته أعلى وأهم من هذا الرقم بكثير.
كنت أتوقع أنه من أجل الموافقة على قرض بهذا الحجم سوف يتم تخصيص جلسة كاملة للأخذ والرد، سوف يستدعى المجلس الوزير المسؤول لإلقاء بيان يناشد فيه الأعضاء الموافقة، موضحاً أهمية الموافقة على قرض بهذا الحجم، كنت أتوقع أن هذه هى القضية التى تستحق انفعال الأعضاء ومشاجراتهم، وليس أى شىء آخر، كنت أتوقع أن يتم رد هذا الموضوع إلى الحكومة لتعديل بعض مواده بما يتناسب مع ظروف البلد، واقتصادها المنهار، كالتفاوض حول نسبة الفائدة، أو سنوات السداد، أو حتى تخفيض قيمة القرض، وربما يتم إلغاؤه.
الأهم من ذلك أن النائب الذى وافق على القرض وغيره من النواب كان يجب أن يكونوا قد درسوا كل تفاصيله، من المعلوم أنه يتم توزيع نسخة من أى اتفاقية على النواب قبل مناقشتها بهدف دراستها، تمهيداً للأخذ والرد بشأنها، وإذا لم يكن قد حدث ذلك فهو كارثة، ربما كان التوقيت الذى عُرضت فيه اتفاقية القرض مقصوداً، الرأى العام كان مشغولاً بقضية إسقاط العضوية، لم يلتفت أحد بالقدر الكافى إلى هذا الخبر الخطير، لكن هل يعقل أن يكون نفس الهدف كان مقصوداً مع النواب، وهو إلهاء النواب بقضية ما لتمرير اتفاقية ما؟ سوف نستبعد نظرية المؤامرة، إلا أن الأمر بالتأكيد يحتاج إلى تفسير.
نعود إلى قضيتنا الأساسية، وهى: من الذى يمكن أن يحاسب النواب على كارثة كهذه؟ نُدرك جيداً للأسف أن المجلس سيد قراره، ولا راد لقراراته سوى الله سبحانه وتعالى، المنتقم الجبار، الذى يُمهل ولا يُهمل، إلا أن الأجيال المقبلة سوف تتحمل أوزاراً لا شأن لها بها، عليها أن تُسدد أوزار الآباء الذين لم يحاولوا أبداً التفكير فى المستقبل، فقط كانوا ينظرون تحت أقدامهم، يطلبون الرضا، وَمِن مَن؟ من الذى لا يملك حتى أقدار نفسه.
فإذا كانت الأجيال المتعاقبة قد وجدت إرثاً ثقافياً، وحضارياً، وأثرياً، منذ آلاف السنين، من إنتاج القدماء الأولين، تنهل من خيراته حتى الآن، فى صورة وفود سياحية من كل بقاع العالم للاطلاع على ذلك الإرث، فقد أصبحت الأجيال المقبلة ضحية سياسات آباء لا يعرفون سوى التسول، والاقتراض، واستنزاف الثروات، وبيع الأصول، وتهريب الكنوز.
يا أهل الخبرة القانونية، أفيدونا يرحمكم الله، هل من سبيل إلى محاكمة كل من تسبب فى ضنك الأجيال المقبلة دون ذنب اقترفته، حتى لو كان مجلس النواب؟ لقد رضيت الأجيال الحالية بقضاء الله وقدره، قَبِلت بهذا الشقاء الذى لا أمل فى تخفيفه، رَضِيت بهذه الغُمة التى يبدو أنها سوف تطول بالتأكيد، لذنب اقترفناه نحن، إلا أنه ليس من العدل أبداً تصدير ذلك الفشل للأجيال المقبلة أيضاً، هو قمة الظلم الذى يجب أن نتوقف أمامه، حتى وإن كان الظالم هو الشعب نفسه، أو بمعنى أصح ممثليه، لنا أن نتخيل إلى أى مدى وصل الانحدار.. الشعب يظلم نفسه بنفسه.