العبد لله بحُكم خبرة نحو 35 عاماً فى مهنة الكتابة، والصحافة، والقراءة، وفك الخط، وربط السطر، والأدب والبلاغة، والنحو الصرف، والعمل فى صحافة عربية، ومراسلة صحافة أجنبية، والحصول على شهادات تفوُّق فى هذا المجال أو ذاك، أزعم أننى أستطيع التمييز بين الأدب وقلة الأدب فى الكتابة، شعراً كانت أو نثراً، أستطيع التمييز بين الغث والسمين فيما هو مكتوب أو مقروء، فى الدعاية، كما فى الخطابة، كما فى السفسطة واستهلاك المساحة أو الوقت، وانتهاءً بالكُرسى فى الكلوب.
السابقون الأولون من الأدباء، والمؤلفين، والكُتّاب، والروائيين العظام، فى عصرنا الحديث، أمثال عباس العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وانتهاءً بإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعى، ويوسف إدريس، كان يمكنهم استخدام أحط الألفاظ وأكثرها بذاءة، إن هم أرادوا ذلك، دون أن يجدوا أدنى معارضة فى ذلك، من جهات رقابية على الطبع والنشر، أو من جهات سياسية، أو حتى من أعمدة ومقالات رأى فى ذلك الوقت، فمَن ذا الذى يستطيع الاعتراض على نص كتبه هذا، أو بيت شعر صاغه ذاك، مَن هو، وما قيمته بجانب هؤلاء العمالقة فى الكتابة والقراءة والثقافة.
لا هذا، ولا ذاك أيها السادة استخدم، أو كان يمكن أن يستخدم لفظاً، أو تعبيراً، مما هو متداول الآن باسم الأدب والإبداع والخيال، وحين يعترض أحد باسم «حماية الأدب»، أو حين يُدين القضاء ذلك باسم «خدش الحياء»، ينبرى كل المدافعين عن قلة الأدب فى بر المحروسة، ومَن على شاكلتهم فى البرور الأخرى: مصر تعود إلى الوراء، وكأن مصر تتقدم الآن فى كل الفنون، وها هى تعود إلى الوراء فى هذا الفن، الذى لم يعد له وجود أساساً، بعد رحيل هؤلاء سالفى الذكر، وفى ظل هيمنة طائفة هذا الزمان من مُدَّعِى الإبداع على الشأن الثقافى بصفة عامة.
فيما يتعلق بالأزمة المتداولة أخيراً حول أحد النصوص، وحكم القضاء بشأنها، كنت أود فقط من كل مَن يدافع عن هذا النص أن يعيد نشره فى كتاباته، وإذا كان الدفاع شفهياً على إحدى القنوات التليفزيونية، فليُعِد لنا قراءته على المشاهدين، أو ليعرضه على أبنائه وبناته، وللعلم مقدماً: لن توافق الصحيفة، أى صحيفة، على النشر، كما لن يوافق التليفزيون، أى تليفزيون، على القراءة، كما سوف يخجل منه الأبناء والبنات أيضاً، لسبب وحيد، هو أننا أمام نص لا علاقة له بالأدب، أو الإبداع، أو الخيال من قريب أو بعيد، نحن أمام نص سوقى، ألفاظ بذيئة، قلة الأدب فى أبشع صورها.
على أى حال، لو كان ذلك هو الإبداع، وهو الأدب، فليتوجه المدافعون عنه فوراً الآن إلى المناطق العشوائية، أو إلى حيث يتواجد المشردون بالشوارع، ليسمعوا من هذه النصوص ما يؤنس وحشتهم، ويغذيهم روحياً وأخلاقياً، ويفيض عليهم من قرائح الفكر والخيال، وبالتأكيد فى هذه الحالة سوف يكتشفون هناك الأدباء الحقيقيين، الذين تتناسب إمكانياتهم الفنية مع طبيعة المرحلة، أو على الأقل مع توجهات أدباء هذا العصر، الذين تنكَّروا لـ«نهج البُردة»، و«رباعيات الخيام»، و«سلوا قلبى»، و«ثلاثية» نجيب محفوظ، و«عودة الروح»، و«عصفور من الشرق»، لتوفيق الحكيم، و«الأيام»، و«دعاء الكروان»، لطه حسين، واتخذوا من الأعضاء التناسلية، بأسمائها السوقية، ساحة للفكر، ومنطلقا للإبداع، وإلا فلا.
وعلى الرغم من أننا أمام أزمة أخلاقية فى هذه المرحلة تحديداً، تجاوزت كل المراحل التى عاصرناها على الأقل، فإننى على يقين أن هذه النوعية من البشر، الباحثين عن الشهرة، هم آفة كل العصور، يمارسون هواياتهم بنشر الرذيلة، حتى لو كان ذلك على حساب أخلاقيات المجتمع ككل، هم يؤازرون الأحكام القضائية التى تساير أهواءهم، ويناهضون تلك التى تتصدى لغرائزهم، يناصرون الأنظمة التى تغازلهم، ويناوئون تلك التى تدرك مخاطرهم.
الخيط ليس رفيعاً أبداً بين الأدب وقلة الأدب، حتى يمكن التجاوز عن هذه أو تلك، بدعوى أن القريحة قد خرجت عن السطر، أو أن الغزالة قد شردت، مع تلك الأنواع الرديئة فى عالم المُسْكِرات، أو ذلك الغش السائد فى أنواع المُسْطِلات، التى يتعاطاها هؤلاء وأولئك، على العكس تماماً، الهوة واسعة إلى أبعد مدى بين الأدب وقلة الأدب، مساحة كبيرة بين هذه وتلك تسمح بالحركة وحرية الإبداع بالفعل، دون تجاوز، ودون استخدام ألفاظ أو مصطلحات، من شأنها إثارة كل هذه البلبلة فى المجتمع.
فى النهاية فقط أود التأكيد على أن العملية فى حاجة إلى علاج نفسى، واجتماعى لهذه الفئة، لا أكثر ولا أقل، ولنبحث كل حالة على حدة، حتى نقف على الرابط بينها جميعا، وهو النشأة والتربية والحالة الاجتماعية، أى أنها أيضاً مسؤولية المجتمع، فليس على المريض حرج.