(1)
كشف بطرس غالى في مذكراته الكثير من خبايا الملف الأفريقى في الإدارة المصرية، وأظهر مدى الإهمال الذي تعاملت به مصر مع القارة السمراء، وأشار إلى مسؤولية نظام مبارك عن كثير من الكوراث التي بدأت تهز المحيط الواقى لأمن مصر القومى، وضعف دورها في العمق الأفريقى، وهذا يعني أن مشكلة مصادر المياه كانت مطروحة على الرئاسة منذ التسعينات، لكن أحدا لم يهتم بهذه القضية الخطيرة، لأسباب غامضة، تحتاج إلى تحقيقات رسمية جادة.
(2)
من مفارقات الدكتور غالي، أنه كان معجباً جدا بالديكتاتور موبوتو سيسي سيكو رئيس زائير، لدرجة وصفه بأنه «مؤسس أمة»، وربما كان يشعر تجاهه بالفضل لأن موبوتو هو الذي طلب من غالي أن يدرج اسمه في قائمة الترشح للأمم المتحدة، وساعده في ذلك، ويحكي غالي عن فضائل موبوتو السياسية قائلاً: لقد فاتحني الرئيس موبوتو في مشروع تشكيل حلف ثلاثى «يضم زائير ومصر ونيجيريا»، يتولى تقرير مصير القارة الأفريقية، وطلب منى أن أدرس هذا المشروع جيداً، وأعرضه على الرئيس حسنى مبارك، وقد اهتتمت بذلك فعلا، وطرحت المشروع على الرئيس مبارك الذي استمع إلى مشككاً في الفكرة والهدف، من دون أن يعطينى أي توجيهات لمتابعة المهمة!، وقد تكرر تجاهل مبارك للمعلومات التي قدمتها له عن أفريقيا في أكثر من موقف، ففي فبراير 1998 التقيت رجل إثيوبيا القوى ميليس زيناوي، وكانت الفرانكفونية هي النقطة الرئيسية على جدول أعمال اللقاء، وفجأة توقف زيناوي عن الحديث في الفرانكفونية، وقال لي: لماذا لا نناقش موضوع العلاقات بين بلدينا؟.. لقد لعبت بنفسك دوراً مهما في العلاقات بين مصر واثيوبيا، لذا فإننى أجد من الملائم أن تنتاولها بالبحث.. إن لبلدينا هدفين مشتركين محاربة الأصولية الإسلامية وتقاسم مياه النيل، لكن لدي وثائق عدة تؤكد وجود أعمال غير مفهومة تقوم بها مصر ضدنا، وهذه الأعمال تكشف لي روح العداء تجاه بلدى!.
(3)
كتب غالي إن المحادثات مع زيناوي استمرت أكثر من ساعتين، وقد حاولت خلال النقاش أن أطمئنه بأن المصالح الاستراتيجية المشتركة بين البلدين تفوق وتتجاوز بعض مظاهر سوء التفاهم التي يمكن أن تعقد العلاقات الثنائية، فبدأ زيناوى يظهر مودة واحتفاء أكبر بشخصي وبالوفد المرافق لي، وعندما عدت إلى القاهرة التقيت الرئيس مبارك (فى 2 مارس 1998) وأحطته علما بمحادثاتي مع زيناوى، والجهود التي يجب أن يبذلها البلدان لاقتسام مياه النيل، لكن الرئيس مبارك قفز على الموضوع وسألني: ما رأيك في موضوع السودان؟
فقلت: هذا الموضوع في رأيى يمكن تأجيله لمرحلة لاحقة، لأن عودة العلاقات تتطلب مفاوضات طويلة، وتحضيرات دقيقة.. كان الرئيس مبارك يسمعنى بانتباه، ولكننى كنت أدرك أنه منشغل بالمشاكل قصيرة المدى أكثر مما تشغله قضية المياة التي تبقى بالنسبة له مشكلة بعيدة المدى، وفى الحقيقة أن قضية مياه النيل تشكل بالنسبة لى اهتماما كبيرا (رغم أنني لم أكن في وزارة الخارجية حينذاك) ولا أتصور أن تكون هذه القضية بعيدة عن اهتمام وأولويات الرجل الذي يعتبر رأس السياسة المصرية، ويضيف غالي: في المساء التقيت مع الوزير عمر سليمان مدير المخابرات والذى يتابع عن كثب العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا وأبلغته بما دار بيني وبين زيناوى، وكذلك بما دار بيني وبين الرئيس مبارك، ووعدنى سليمان بالاهتمام بهذه القضية التي يعتبرها أساسية، لكنه لم يفعل شيئا يذكر.!.
(4)
يحكي غالي قصة طريفة لا تخلو من مغزى ودلالات، تتعلق بتراجع دور مصر في أفريقيا لدرجة تدعو إلى «الخجل الدبلوماسي» وتعبر عن «الخبل السياسي»!.. فقد ذكر غالى أنه تلقى هدية غريبة من الرئيس المالى عمر كونارى عبارة عن ماعز «جدي»، تم تدبير مكان لإعاشته في حديقة السفارة المصرية، وكنت أتساءل عن مصير «الجِدي»، هل سيظل هكذا في مدخل السفارة؟، فقال لي السفير عصام فتح الباب سفيرنا في مالي إن وزير الخارجية حينذاك عمرو موسى قد تلقى الهدية نفسها، ولأنه وزير معروف بمراعاته للأصول الوظيفية والدبلوماسية، فقد قام بإرسال عدة برقيات مشفرة إلى القاهرة ليعرف ماذا عليه أن يفعل بهذا الضيف غير المتوقع؟، لكن جهده ذهب هباء، فالقاهرة لم تعطه جواباً بشأن الموضوع، وبعد سفره نسى الوزير «معزته» ولم يعط أي تعليمات لتقرير مصيرها!
يوضح غالى قدرته على حل المأزق بأسلوب «عرفي» بعيداً عن روتين المكاتبات الرسمية، فيقول: من ناحيتى، طلبت من السفير عصام فتح الباب، أن يضحى بالمعزة ويوزع لحمها على المحتاجين!، ثم أردفت: «كونى لم أعد الوزير المسؤول عنك، ليس من حقى أن أعطيك تعليمات مكتوبة، ولكنى أناشدك كصديق أن تنفذ هذه المهمة التي لا علاقة لها بالعمل الدبلوماسى.
(5)
في مطلع عام 1999 التقيت مع الأمين العام للجامعة العربية حينذاك الدكتور عصمت عبدالمجيد، وناقشت معه بعض القضايا المتعلقة بأفريقيا، وعقب هذه المقابلة التي تبادلنا فيها مجرد كلمات للرأي دون أي خطوات عملية، التقيت بالدكتور أسامة الباز المستشار السياسى للرئيس (3 يناير 1999) وأفصحت له عن مخاوفي من أهمال السياسة المصرية لأفريقيا، وقلت له: «إنكم تهملون ملف السودان ومشكلة مياه النيل.. لقد تخليتم عن أي حضور فاعل في منظمة الاشتراكية الدولية، منذ أن استقلت من منصبى كنائب لرئيس المنظمة عام 1991»
ويسجل غالى ملاحظة ذات مغزى خطير يقول فيها: خلال مقابلاتنا كان أسامة الباز يدون بصورة شبه دائمة، بعض الملاحظات (التى دائما ما ينساها سريعا على أيه حال).. لكنه اليوم لا يقوم حتى بهذا المجهود.. يكتفى كعادته بهز رأسه، ويقول عبارة من هنا وعبارة من هناك وهو يتحدث بصوته الأخن.
(6)
هكذا كانت مصر تُدار، وهكذا كان حكامنا يتعاملون مع أخطر القضايا التي تؤثر على حياة الشعب والأرض، وتلقي بتبعاتها على المستقبل، حتى وصلنا إلى أشلاء دولة، وهذا هو العجب الذي ما بعده عجب.!