(1)
أظهر بطرس غالى في الكتاب الثالث من مذكراته السياسية الذي صدر تحت عنوان «بانتظار بدر البدور» اهتماما بضرورة استنهاض دور مصر في أفريقيا، خاصة فيما يتعلق بالسودان ومياه النيل، وكاد غالي أن يعلن عن يأسه من إهمال إدارة مبارك لهذا الملف تماماً، وكنا قد توقفنا أمس عند ملاحظة أكثر من عاتبة وأقل من غاضبة، أظهر غالى من خلالها ضعف اهتمام وأداء أسامة الباز مستشار الرئيس بعد حوار دار بينهما عن الهم الأفريقى، وكان ذلك يوم الأحد 3 يناير 1999، وبعد ذلك بيومين «الثلاثاء 5 يناير» كان الموضوع لا يزال يسيطر على تفكير غالى ففتحه مع وزير الخارجية عمرو موسى.
(2)
قال غالى: بعكس أسامة الباز يعى وزير الخارجية عمرو موسى أهمية الملف السودانى وإدارة مياة النيل، وقد كان ذلك واضحا في مناقشاتنا، وأذكر أن موسى قال لي في إحدى هذه المناقشات: بما أن القضية الفلسطينية في طريقها إلى الحل الآن، يجب علينا العودة إلى مشكلة النيل، وتكريس كل جهدنا لتوطيد العلاقات مع السودان، وهو موضوع كانت له الأولوية دوما في نظر الدبلوماسية المصرية، لكن هذا الملف للأسف هو من صلاحية عدة سلطات: رئاسة الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية ووزير الرى، وأنا أخشى من هذا التشتت، فهناك خشية من توزيع جهودنا.!
(3)
يسأله غالي: لماذا لا نستخدم «منظمة الاشتراكية الدولية»، فهي وسيلة مهمة أهملناها منذ عدة سنوات؟.. لماذا لا يتم تسمية دبلوماسى للمساعدة في هذا الدور بحضوره الاجتماعات والمؤتمرات الدولية في المنطقة؟
يضع غالى سؤاله لموسى في متن المذكرات، لكنه لا يشير إلى إجابة موسى من قريب أو بعيد، ولكنه يلمح إليها بشكل خفى في عبارة دبلوماسية محملة بالمعانى، يقول فيها «أمضى عمرو موسى حياته في عالم الدبلوماسية، وهو مثل جميع أقرانه لا يبدى اهتماما كبيرا بالمنظمات غير الحكومية، وبالأحزاب السياسية».
(4)
على الرغم من ملاحظة غالي (أن موسى مثل بقية أقرانه) يبدو أن هناك ارتياحا ما بين غالى وموسى، دلت عليه إشارات متعددة، ونحن لا نحاول إثباته تمحكا في إثبات وجود مدارس أو أجنحة داخل الخارجية، أو في النظام السياسى المصرى كله، لكننا سنحاول معا أن نستخلص من بعض المواقف التي حدثت بين الرجلين صورة أوضح لما يدور في كواليس الحكم وأروقة صنع القرار، وفى مقدمة المواقف التي تساعدنا على رسم هذه الصورة ما حدث في منتصف فبراير 2001، عندما وضعت الرئاسة سيارة مصفحة تحت تصرف بطرس غالى لكى يذهب إلى لقاء عمرو موسى في مبنى وزارة الخارجية، وهناك أخبره موسى أنه عرض عليه منصب الأمين العام للجامعة العربية، ويسأله: ماذا على أن أختار في رأيك؟ فيجيب غالي: إنه سؤال بلاغى محض.. ففى نظامنا السياسي، نحن لا نختار، لكن الرئيس يختار لنا..!!
(5)
يضيف غالى ربما اعترافا بالأمر الواقع أو كرسالة تفصح عنها سيارة الرئاسة المصفحة، ولم يكن مطلوبا منه إلا تمريرها لموسى: «لو كنت مكانك لرغبت بالتجربة الجديدة، وقبلت الذهاب إلى الجامعة العربية، فالجامعة على الرغم من ضعفها الذاتى، تستحق أن ترفد بالدعم وبالحيوية، خصوصا أنه مع أزمة الأمم المتحدة سيكون للمنظمات الإقليمية دور متزايد الأهمية».
(6)
يتحدث غالى مع موسى في قضايا أخرى تخص المنظمة الفرانكفونية، ويطلب منه ضرورة التفكير في توقيع مصر على اتفاقية «أوتاوا» الخاصة بالألغام ضد الأفراد، ويعده موسى بدراسة هذا الملف، ويظهر ودا ولطفا في معاملة غالى، حتى أنه يعرض عليه استعمال طائرته للسفر إلى المؤتمر الأفريقى في ليبيا، ويقول له بود: إنها نفس الطائرة الصغيرة طراز «ميستير» التي كنت تستعملها أثناء جولاتك الأفريقية والآسيوية، عندما كنت وزيرا.
(7)
في مساء اليوم نفسه يلتقي غالي مع موسى في حفل استقبال أقامه الوزير يوسف بطرس غالى ابن شقيق بطرس، الذي يفاخر به، ويعتبره طليعة الجيل الخامس بالعائلة، وفى الحفل يبدو أن أمر موسى قد تم حسمه، إذ يقول غالى: لم يعد لديه الخيار.. لقد أعلن رئيس الجمهورية اليوم بعد الظهر أن مصر قدمت رسميا ترشيح وزير خارجيتها لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، وأن ملوك ورؤساء الدول الأعضاء قد أكدوا له دعمهم«وهكذا فإن مبارك لم ينتظر رأي موسى ولا مشورة غالي، فالرئيس هو الذي يختار لهم، حسب تعبير بطرس غالي!، الذي يضيف معلقاً على ما حدث: كان خروج موسى من الخارجية إلى الجامعة موضوع الحديث الوحيد في هذه السهرة، حيث كثر التعليقات، البعض يرى في ذلك تهميشا واستبعاداً، والبعض الآخر يرى فيه نهاية جميلة لمسيرة مهنية.
(8)
لعلكم تتذكرون الآن الضجة التي صاحبت خروج موسى والتحليلات التي امتدت من صالونات النخبة إلى مقاهى الأحياء الشعبية خاصة بعد أن تحول موسى إلى ما يشبه «بطل شعبى» بدعم من أغنية شعبان عبدالرحيم الشهيرة «أحب عمرو موسى.. واكره إسرائيل»، وهو ما يفسر لنا جانبا من الحلول السياسية والإدارية التي استخدمتها سلطة مبارك، (والسلطة في تاريخنا عموما) لأسلوب «الخلع السياسي» و«شلوت لفوق»، فربما تساعدنا مثل هذه المعلومات على الاقتراب من طريقة صنع القرار في مصر، وهي الطريقة التي حيرت الكثيرين في تلك الفترة البائسة من تاريخ مصر.