كنت قد بدأت بمتابعة مقالاته على النيويورك تايمز، وإعادة نشرها، في مناسبات متفرقة، على صفحتي على فيسبوك، وكثيرا ما تلقيت ردود أفعال مستنكرة حول ما ورد فيها. قبل ذلك بأشهر قليلة نبهني كاتب وصحفي هولندي من أصل مغربي اسمه محمد بنزاكزر، إلى مقالاته في النيوروك تايمز قائلا: «من أهم من يكتبون عن الإسلام والمسلمين».
لكن الروائي والصحفي الجزائري كمال داوود أعلن منذ يومين توقفه عن العمل الصحفي، نظرا لاتهام مجموعات له بتغذية مشاعر الكراهية ضد المسلمين في الغرب، وقال إنه سيركز أكثر على الرواية. ويبدو أن الجماعات التي وجهت «التحذير» إلى كمال داوود تضم أكاديميين ومثقفين عربا ومسلمين يقيمون بالغرب، لم يكن داوود يتوقع منهم ردة الفعل هذه، حسب تصريحات له، أعرب فيها عن اسيتيائه الشديد من تعرضه لمحاكمة ستالينية لا أحد أخذ رأيه فيها أو كلف نفسه عناء قراءة مقالاته قراءة صحيحة.
في مقاله اللاحق لأحداث كولونيا كتب كمال داوود: «الجنس هو المأساة الأكبر في حياة المسلمين، حيث تتعرض المرأة للقتل أو الحبس والحجاب والامتلاك» وهو ما دعا «مجموعة من علماء التاريخ والإجتماع والفلسفة والانتروبولوجيا المقيمين بالغرب» للرد على الكاتب الجزائري في الثاني عشر من فبراير الجاري بنشرعريضة في لوموند الفرنسية يتهمونه فيها بالإسلاموفوبيا، حسب موقع فرانس ٢٤ الفرنسي. ومعروف أن الكاتب ينشر مقالات رأي في صحف واسعة الانتشار، مثل لوموند الفرنسية، وريبابليكا، ولوبواند ونيويورك تايمز، ويأتي انسحاب داوود من العمل الصحفي بعد أيام قليلة من حصوله على جائزة «افضل صحفي» في فرنسا! ما يحدث لكمال داوود في الغرب، وبرعاية جهات، تعتبر الجبهة النيرة من المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، أمر في غاية الغرابة. فالمفروض والمعتاد أن الكاتب الذي تمارس على أعماله رقابة فكرية في ديكتاورية ما من الديكتاتوريات الكثيرة المنتشرة في العالم الإسلامي، يتوجه إلى الغرب، حيث حرية التعبير مكفولة، والمجال مفتوح لاستيعاب كل الآراء مهما بلغ تطرفها. أن يصل تكميم الأفواه والترهيب الفكري إلى المؤسسة الأكاديمة في الغرب، فهذا أمر مخيف حقا، فـ«الفتوى» الجديدة لم تصدر عن زعيم جماعة إسلامية متطرفة أو مؤسسة دينية متشددة، بل عن «اكاديميين ومفكرين وعلماء تاريخ واجتماع»! هل نحن منتبهون لما يعنيه هذا؟ داوود أكد في مناسبات كثيرة أن مقالاته لا تتعرض إلى الدين الإسلامي في حد ذاته، بل إلى التيارات الإسلامية التي تركب الدين لأغراض سياسية، وحرص دائما على توضيح هذا الفرق، الذي أصبح الغرب اليوم يفهمه جيدا، ويتعامل معه على أنه «اكتشاف» جديد، وعامل مساعد على ردم الهوة الفكرية بين الغرب والمسلمين. عاينت ذلك بنفسي، في معظم حواراتي التي أجريتها مع مستشرقين وجامعيين غربيين عن العلاقة بين العالم الغربي والإسلامي، حيث كانت هناك دائما إشارة واضحة إلى انتباه الغرب، على الأقل في شقه النخبوي، إلى ضرورة التفريق بين الإسلام كدين، وبين من يتاجرون به أو يرفعون شعاره لأغراض مختلفة. وكل الأصوات المعتدلة في الغرب اليوم، تحرص على توضيح هذا الفرق. إذن ماذا يحدث لكمال داوود؟ هل حقا تساهم كتاباته في الرفع من درجة الخوف من الإسلام؟ هل ينمي الاسلاموفيبيا في الغرب، كما يدعي معارضوه؟ اختار الرجل ألا يدخل في جدل وجد نفسه، مكرها، في قلبه، بإعلانه التوقف عن الكتابة الصحفية لوسائل الإعلام الغربية، وهو القرار الأسهل بالتأكيد، لكن يبدو أن صدمته في جيل المثقفين الغربيين فاقت أي صدمة، فهي الجهة الموكل إليها التصدي إلى مثل هذه الفتاوى لا نشرها والتسويق لها. شخصيا اعتقد أننا، كمسلمين، مقيمين بالغرب، فقدنا الكثير بتوقف كمال داود عن نشر أرائه في الصحف الغربية، لاعتبارات أهمها، أنه كان يساعد الغرب على التفريق بين الاسلام والمسلمين والتعامل مع ما يحدث من تجاوزات واعتداءات وارهاب وظواهر مخلة من المسلمين المقيمين في الغرب، على أنها سلوك نابع من أفراد أو جماعات، وليس من الدين الاسلامي، وقد كتب صراحة في مقاله المثير للجدل عن اعتداءات كولونيا، أنه تطرق إلى «حياة المسلمين» وليس دينهم، إضافته جاءت في توسيع هذا الفهم لدى العامة بطرحه للجدل، بعد أن كان على مقصورا على النخبة. الخسارة الثانية تكمن في تنامي التيارات الدينية في الغرب، أو ما يسمى الإسلام الغربي، حتى بات اليوم يوجد من ينظر إليه على أنه بديل «معتدل» للإسلام القادم من شبه الجزيرة والشرق الأوسط، ويرغب في تنميته، ونشره لاحتلال مساحات أوسع. وهناك من المفكرين الغربيين من يعتقد اليوم أن الغرب قادر على تفريخ و«تصدير» إسلام جديد، طبخ في الغرب، بمقادير غربية جاهزة، إلى العالم الاسلامي، بعد أن عجز العالم عن «فهم» الدين الإسلامي وفقد الثقة في التعايش السلمي معه. وما فعله داوود في مقالاته، هو التدليل على أن التعايش مع الإسلام ممكن، إذا اعترفنا بوجود خلل في ممارسته وتطبيقه، وحددنا مواضع الخلل، وعالجناها، وخير من يفعل ذلك المسلمون أنفسهم، ووجود أصوات تنتقد من داخل الإسلام، على غرار كمال داوود، أفضل بكثير من أصوات مسقطة من خارجه، تروج في الغالب لأجندة معينة. الخسارة الثالثة: في ظل تزايد الملتحقين بمعاقل الإرهاب في العراق وسوريا من داخل الدول الغربية، وفق إحصائيات أجهزة الاستخبارات الغربية، فإن الغرب يثمن أي محاولة لفهم المحرك والدافع الذي يجعل جيلا ولد وتربى في الغرب، وتشعب بقيم الحرية والعدالة والتسامح يلتحق بالإرهاب، إنها معضلته الكبرى التي يحاول الآن الاجابة عليها بشتى الوسائل. وما يفعله كاتب مثل كمال داوود هو المساهمة في حل هذه المعضلة، وإسكات صوته معناه أننا نترك المجال مفتوحا لقراءات وتفسيرات معضمها خاطئ، وبالتالي لا تقدم حلولا بل تعقيدات إضافية. أتمنى من المجموعة صاحبة الفتوى على مقالات كمال داوود التي حجبت صوته عن الرأي العام، أن تقدم لنا البدائل التي ترى أنها قادرة على إيصال صوت المسلمين للغرب وخدمة الإسلام من منظورها، وأن تخبرنا بما فعلته هي على مدى عقود، لخدمة قضايا المسلمين، والحال على ما هي عليه من التردي وسوء الفهم.