(1)
منذ بدأ يعى الحياة، أدرك أن بها من الكنوز ما يستحق أن ننقب عنه وأن نصرف كل العمر من أجل ذلك. فلا وقت نضيعه فى هذه الحياة لكى نتألم، أو نبتئس، أو نخطط لشر، أو نسىء لأحد، أو نحمل هما، أو نكره، أو نستسلم للظروف مهما كانت مؤلمة، أو...،إلخ. الأهم، هو أنه كان ينقب عن هذه الكنوز لا من أجل نفسه ولكن من أجل أن يشاركها مع الآخرين، وهذا هو جل حلمه وفرحته وحياته...إنه توماس جورجسيان الكاتب والصحفى والمثقف والفنان المصرى الأرمنى الذى ولد وعاش أكثر من نصف عمره فى مصر وهاجر بالجسد إلى أمريكا، ولكنه يعيش بقلبه ووجدانه وعقله فى مصر...وخلاصة تجربته يخطها كلمات حية وحرة وإنسانية فى أول كتبه.
(2)
«لست هنا لكى أصدر أحكاما على أفعال أو أقوال
أنا هنا لكى أرصد لحظة... وأحتفى بشعور
وألتقط همسة وأبحث عن لمسة
وأفرح بنبضة وأحتضن بهجة... وأحلق بحلم
هذه هى رحلتى وطريقى وحياتى وهدفى وسعادتى
لحظة صادقة معك... أشاطرك فيها أحلامى»...
إنها كلمات خطها صديق العمر «توماس جورجسيان»، فى كتابه الأول «الطيور على أشكالها تطير» (الصادر عن دار العين للنشر ـ 2016)... الذى أعتبر كتاباته امتدادا لكتاب من عينة: إبراهيم المصرى، ويحيى حقى، ومحمد عفيفى... إنها الكتابة الإنسانية التأملية التى يتم تسطيرها بمداد تم تركيبه من عنصرين هما: الحب والحرية... فى محاولة لاكتشاف النفس والآخرين والعالم... فلا معنى للحياة دون أن نكتشفها بأنفسنا... فلامعنى «للإجابات النموذجية» سابقة الإجابة... فحلاوة الحياة أن تجيب عن الأسئلة بنفسك ذلك لأنه وبحسب توماس: «أسئلة الحياة (مع تجددها) ببساطة فى حاجة ماسة إلى إجابات مبتكرة وإلا ما كانت الحياة... إجابات فيها إبداع وفيها تفكير وفيها رؤية وفيها خيال... فيها خروج عن النص... وهروب من الصندوق أو تابوت الأفكار المتحجرة»... شريطة أن تنطلق وأن تتحرر وألا «تستأذن أحدا لا همسا ولا صراخا».
(3)
بهذا المعنى، يسهم توماس فى تقديم معان جديدة، فى ضوء تجربته الإنسانية، للكثير من المفاهيم مثل: «ماذا يعنى الحلم؟» و«لماذا نحب الحياة وكيف؟»، و«كيف يعيش المرء نفسه الحقيقية؟، وماذا يعنى الصبر؟،...،إلخ. الأكثر من ذلك يسهم توماس فى أن يشير إلى أهمية طرح أسئلة جديدة وعدم طرح الأسئلة القديمة بنفس الطريقة... ويشير من خلال خبرته الشخصية واطلاعه على بعض التجارب فى هذا المقام، وتحديدا مهرجان أسين للأفكار (المعنى بعمل مراجعة ومستمرة ومتجددة لترسيخ وتأكيد مبدأ ومفهوم ومناخ تعددية الرؤية)على أنه: «لا معنى للحياة ما لم نتدرب على طرح أسئلة جديدة من أجل إيجاد إجابات جديدة»...أو الغوص والتنقيب عن كنوز جديدة... وهنا يثور سؤالان هما: لماذا الغوص والتنقيب؟ وما عائدهما؟
(4)
إن الحياة الحقة لا تستقيم دون «الغوص والتنقيب»...والعائد المضمون بحسب توماس هو: «البهجة»، التى هى ضرورة وحاجة للإنسان. فبها «يعيش الإنسان حياته ويستمر فيها، وبها يتحدى أيضا الإنسان الزمن...و«قسوة الظروف، والحزن المكتوم، والغضب العارم فيما نعيشه ونراه ونسمعه»...ومن ثم يؤكد توماس أن: «محاولات اقتناص تلك اللحظة، ومعرفة قيمة هذه النعمة أى ـ البهجة ـ قبل فوات الأوان والتمسك بها لأطول فترة ممكنة لم تعد ترفا ولا تعتبر رفاهية قد تأتى إليك دون أى جهد أو سعى منك. بل هى حق لك، واجب عليك البحث عنه والسعى إليه ومطاردته والإتيان به والاستمتاع به، وإن أمكن إمتاع الآخرين به أيضا»...وربما يبقى السؤال الذى نطرحه على توماس: عن أى كنوز نبحث وما هى طبيعتها؟.
(5)
الكنز لدى توماس هو لحظة سعادة نقية حقيقية. إنها لحظة إبداع يشعر فيها الإنسان بوجوده وكينونته، شريطة أن تكون مصدرا للسعادة بالنسبة للآخرين...وخاصة أن «مجموع ما سوف يعطيه الإنسان» فى حياته، يظل بحسب توماس: «له(لهذا الإنسان المعطى) طول العمر»...لذا على كل إنسان ألا يترك ما يصفه «بنشارة الحياة» دون فائدة أو استثمار ما...فالنشارة التى هى ما يتبقى من الخشب بعد قطعه وإعداده للاستخدام. وفى العادة نرمى هذه النشارة فى سلة المهملات. إلا أنه يمكن أن نستخرج من هذه النشارة جواهر ولؤلؤا وكل ما هو ثمين...ذلك لأن «نشارة الحياة» هى «الوقت الضائع الذى لا نهتم به، والفضائل الصغيرة التى قد لا تلفت الأنظار، ومن ثم يمكن أن نصنع منها شيئا جميلا لو أننا التفتنا إليها واستفدنا منها، وصبرنا على تحويلها إلى قوة تساعدنا على تحقيق ما نحلم به من أهداف».
(6)
تحية إلى توماس، الذى لم يتغير قط، وإنما كشف عن حقيقته أكثر فأكثرـ بحسبه وبقلمه ـ حقيقته الفرحة والمحبة للحياة. وعشقه أن يكتشف العالم بحرية دون قيود أو توجيهات... يعيش فى واشنطن، مثلما كان يعيش فى شبرا فى الزمانات...كان قريب الصلة بالإعلام مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهما ولا يزال...والآن حريص على توثيق علاقته بالشخصيات المتنفذة فى الخارجية والبيت الأبيض باعتباره كاتبا ومراسلا للأهرام... وفى نفس الوقت نجده ينسج علاقات اجتماعية مع بائعة الصحف الصينية فى مترو الأنفاق وغيرها مثلما كان يفعل فى القاهرة... وأنا أعرف أنه لم يزل لديه ما يقدمه من إبداعات، ننتظرها... ونواصل.