(1)
قضيت عامًا فى المحليات، كنائب لمحافظ القاهرة، (بداية من أغسطس 2011 إلى أغسطس 2012). وعندما توليت المسؤولية كانت تعرض علىّ الملفات للتوقيع النهائى بعد أن يتم فحصها فى الأحياء، كل ملف بحسب الحى الذى يتبعه. وتتنوع هذه الملفات بين طلبات تتعلق بأمور هندسية خاصة بالمبانى، وأخرى تتعلق بالأفران، وثالثة بطلبات المواطنين الغلابة بطلب شقق ـ لأسباب متنوعة، أو التصريح بإقامة أكشاك للمساعدة على «المعايش» كما كان يقول طالبو التصاريح،...، إلخ. وأذكر أن الطلبات كان يتم تجميعها ويتم تقديمها لى للتوقيع مرة واحدة على اعتبار أنه تمّ البت فيها.. ويشاء القدر أنه مع أول ملف تمتد إليه يدى قمت بتقليب صفحاته فى محاولة لفهم ما فيه وكان يتعلق بطلب تصريح لإقامة فرن، أن وجدت «توقيعين» متناقضين لجهة واحدة. الأول: يمنع إقامة الفرن. والثانى يمنح الطالب التصريح بإقامة الفرن.. وتفصل بين المذكرتين عدة أوراق ومستندات. استوقفنى الأمر. وقمت بتشكيل لجنة للتحقيق فى هذا الأمر.. وعلمت أن التحقيقات التى من هذا النوع تأخذ وقتًا. فقررت أن يسير التحقيق فى مساره. وأن أقوم أنا بتحقيق ـ غير رسمى ـ لفهم معضلة: المنح والمنع فى وقت واحد.. واكتشفت أن المنع يقوم على أصل قانونى، والمنح أيضًا يقوم على أصل قانونى.. وهذا ما تكرر عند مناقشة أمور هندسية. حيث يمكن أن يتم المنح وفق نص قانونى، وأن يتم المنع وفق نص آخر.. ما هو السر فى ذلك؟
(2)
اكتشفت أن هناك عدة مصادر حاكمة للبتّ فى الطلبات وذلك كما يلى: الأول: القانون المنظم، الثانى: اللائحة التنفيذية للقانون والتى تفسّر بنود القانون، الثالث: الأحكام القضائية الصادرة عبر وقت ممتد، والتى ترقى إلى مرتبة القانون، الرابع: قرارات المحافظ/ القرارات الإدارية التى تقررت عبر الزمن. وأن ما يحدث هو أنه يمكن لمن يبت فى الطلبات أن يكتفى بمصدر واحد لاتخاذ القرار: «بالمنح أو المنع».. وقد يكون ذلك عن جهل، أو لسوء تفسير المصادر القانونية، أو،... ،إلخ.. وهنا قلت للمسؤولين ألا يتسرعوا فى البتّ قبل أن يعودوا إلى «الجراب» ويستفزوا كل ما فيه حتى يخرج القرار سليمًا وصحيحًا وعادلًا غير «مجروح»...
(3)
وحتى يكون القرار نافذًا كان لابد له من آلية مبتكرة وحداثية.. شغلنى هذا الأمر بعض الوقت.. ووجدت أن الموضة التى بدأها البعض. وتم تكرارها دونما النظر إلى جدواها وأثرها. أقصد الاجتماع الأسبوعى مع الجماهير. وهو أمر تمت محاكاته على نطاق واسع على الطريقة المصرية. حيث ما إن يبدأ تقليد ما ويكون له بعض الأثر الإيجابى يتم تقليده. وعلى الرغم من أن هذا اللقاء الدورى له بعض الأثر الإيجابى إلا أنه لا يتجاوز احتواء غضب المواطنين. ما يجعله أقرب إلى جلسات المظالم أو «شكايات الفلاح الفصيح».. فالمواطن يقوم بتقديم «المظلمة» ويأخذها المسؤول على وعد بالبتّ فيها. ويقوم بإرسالها إلى نفس الجهة التى أوصت بالقرار الذى أغضب المواطن.. إذن، نحن أمام موقف لابد له من استجابة مغايرة..
(4)
بعد الاستشارة، وجدت أنه يمكن تكوين لجنة جماعية من رؤساء الأحياء مع عدد المختصين كل فى مجاله من كل حى فى وجود المستشار القانونى للبت فى الطلبات بصورة جماعية، فلا يستأثر شخص بعينه أو أكثر بالقرار. بلغة أخرى إذا ما كان الأمر يتعلق بطلبات هندسية فلابد أن يحضر كل رؤساء الأحياء وعدد من المهندسين من كل الأحياء مع مراعاة التمثيل الجيلى والجنسى والأقدمية. وذلك فى وجود المستشار القانونى للمحافظة، وسكرتارية لتوثيق النقاشات.. نعم نقاشات. حيث يقوم كل حى بعرض ما لديه من طلبات. ثم تتم المناقشة فى وجود ممثلى الأحياء الأخرى. وأذكر أن مشهد النقاشات كان من المشاهد الثرية التى تعكس الكثير والكثير مثل: نظرة الموظفين للمواطنين وطلباتهم، تحيزات الموظفين، طريقة التعامل مع المصادر القانونية وتفسيرها، المصالح والتوصيات،...، إلخ. وكانت النقاشات تمتد لأسباب كثيرة منها: الاختلاف على تفسير النص القانونى، أو لوضع بعض العراقيل المتعمدة للاتجاه فى مسار معين، أو لعدم وضع كل المصادر معًا لتكون أمام أعين اللجنة عند اتخاذ القرار السليم. وهنا كنت أطالب الحضور ـ بقدر محسوب من السخرية ـ «دخلوا ايديكم ودوروا فى الجراب»؛ هل تمت مراجعة كل المصادر، وإذا ما تم الوصول لقرار، نراجع المستشار القانونى ليقول القول الفصل بعد النقاشات الممتدة ويتم الاتفاق على الصياغة القانونية الصحيحة والعادلة حيث توثقها السكرتارية...
(5)
وظنى أن هذه الآلية الجماعية الحداثية كانت تخرج ما «بالجراب» من أسرار ليكون متاحًا أمام الجميع وفى خدمة المواطنين. كما أن القرار كان يؤخذ بشكل جماعى مما كان يطمئن المواطنين على مصالحهم حتى لو جاء القرار ضد مصالحهم. ذلك لأن اللجنة كانت تعطى المواطن حق التظلم والنقاش المباشر مع اللجنة حول أسباب القرار.. وأظن أن هذه الآلية قد جعلت الجراب الأشبه بجراب الحاوى غير ذات فعالية.. كما خرجت بالإدارة من المغارة.. ولكنى أظن أن اللجنة توقفت بمجرد أن تركت المكان وعاد الجراب بأسراره إلى المغارة..
ونواصل..