(1)
تتحرك الإدارة المؤسسية الحديثة وفق تصورات تحكم هذه الحركة. تبدأ أولاً: من الفلسفة الإدارية التى يتم اختيارها، والخطط الممتدة والوسيطة والقصيرة، والسياسات العملية، والكيفية التى تحقق أهداف المؤسسة، والهيكلية المناسبة، والتوصيف الوظيفى لكل موقع من مواقع هذه الهيكلية... إلخ. ويشترط ثانياً: أن تكون هذه التصورات موثقة بشكل مكتوب، ومتاحة وقابلة للتداول عند اللزوم. ذلك لأن هذه التصورات ما إن تتحول إلى واقع عملى من خلال «دولاب العمل اليومى» يتم تقييم- ثالثاً- الأداءات والممارسات على أرض الواقع حتى يمكن إحداث التصويب المطلوب إذا ما لزم الأمر.. ولكى تكون العملية متكاملة لابد من توثيق كل مراحلها فى صورة تقارير دورية تتسم بالتكامل بين البعدين: الكيفى والكمى.. ويعرف كل ما سبق: بـ«الذاكرة المؤسسية» للكيان الإدارى.. ويشار هنا إلى أن القوانين واللوائح المنظمة فى هذا السياق المؤسسى الحداثى يتم تشريعها وفق التصورات التى يتم الاتفاق عليها لا العكس. أو بلغة أخرى، ما القوانين- فى هذه الحالة- إلا خادمة للتوجهات العامة. وتتسم «الذاكرة المؤسسية» بأنها تكون مدونة وموثقة وقابلة للاستعادة والتداول فى أى وقت، إما بغرض إعادة النظر فى أمر من الأمور، أو للتعريف بعمل الكيان وجهوده، أو للتذكير بتوجهات الكيان، أو بتوجيه القادمين الجدد إلى الجهاز الإدارى.. إنها «الإدارة فى النور».
(2)
على النقيض، نجد «إدارة المغارة» تقوم على أن يقوم القادم الجديد باكتشاف أسرار المغارة بنفسه والتنقيب عن تاريخها، ومساراتها، ومقدراتها، وهو وشطارته، لذا رأينا أن نعنون هذه الملاحظات حول الجهاز الإدارى: بـ«يوميات التنقيب والتجريب».. «فحراس المغارة» من قدامى/ عتاة الموظفين يحتفظون بما لديهم من معلومات. ولا يتبرعون بتقديم أى معلومة إلا بمقابل أن يحظوا بمزايا ما. ويجيبون بـ«القطارة» إذا ما سئلوا، ناهيك عن سيادة الذاكرة الشفاهية، وهى ذاكرة ـ أردنا أو لم نرد ـ يشوبها: التحيز، الانتقاء، اللامؤسسية، شبهة التوجيه الخاطئ، احتمالية النسيان... إلخ. وهو أمر اختبرناه بأنفسنا. وأذكر أنه فى اليوم الذى طرح علينا فيه الالتحاق بالمحليات، أننى بحثت عن أى أوراق تعيننى فى مهمتى فلم أجد. سألت عدداً من المسؤولين حول: الرؤية العامة الحاكمة للمنصب، والتوصيف الوظيفى والصلاحيات والمهام... إلخ. وفى كل مرة كنت أطلب ذلك كانت الإجابة كما يلى: «أكيد هناك أوراق توفر كل ما تريده من معلومات، وعموماً المحافظ ونائب المحافظ هما بمثابة رئيس الجمهورية فى موقعهما».. وفى الواقع العملى، وبعد بحث وتنقيب، وجدت أن القليل المدون ما هو إلا مجموعة من العناصر الإجرائية العملية لا يوجد ما يؤصلها مفهومياً، وأن الصلاحية محدودة على غير ما هو شائع. الأهم هو أنه لا توجد «ذاكرة مؤسسية»، بالمعنى الذى شرحناه، يمكن توفيرها للقادم الجديد.. فلا يوجد «تسليم وتسلم» كما هو متبع فى التقاليد العسكرية المعروفة أو فى الكيانات الإدارية الحداثية.. ويترجم البعض ممن درسوا هذه الظواهر أن هذه ظاهرة تتسم بـ«الهدر» بامتياز.
(3)
المحصلة، أن الإدارة الفاقدة لـ«الذاكرة المؤسسية» تدفع بعناصرها الإدارية للبدء من جديد مع كل قيادة جديدة. ما يعنى «التجريب»، فى غياب الوثائق الأساسية. ويؤدى ما سبق إلى: عدم الاستمرارية الإدارية، ومنع التراكم، وعدم ضمان أن يحقق الكيان الإدارى ما تأسس من أجله، وتشوه- يقيناًـ الرؤية الحاكمة لحركته، ومن ثم القدرة على الإنجاز الممتد والمؤثر فى حياة المواطنين. وعليه افتقاد الجهاز الإدارى صفته كـ«قفص حديد»، بحسب تعبير عالم الاجتماع الأشهر ماكس فيبر، كجهاز مؤسسى منضبط وعقلانى يعمل لحساب المواطنين فى دولة المواطنة، ليكون قفص حديد «تحكمياً» يعمل لحساب «حراس المغارة» الذين فى يدهم: «التعطيل» أو «التعجيل».. ويصبح جل اهتمام الجهاز الإدارى هو تنفيذ اللوائح بصورة لا روح فيها، والحفاظ على مكاسب المغارة وخصوصيتها وقفصها الحديدى التحكمى لا الخادم للمواطنين.
(4)
ويفرض غياب «الذاكرة المؤسسية» أن تجرب القيادة الإدارية الجديدة. والتجربة تعنى احتمالية الصواب كما تعنى احتمالية الخطأ. وقد تكون حداثية شبكية وقد تكون تقليدية هرمية. وفى الحالتين تفرض إدارة المغارة نفسها فلا تسمح إلا بالقليل الحداثى مقابل تستيف الملفات وتأمين إرسال المذكرات فى مواعيدها، والاستجابة لخطط يتم وضعها بمنطق معكوس ومقلوب تجاوزته المؤسسات الحداثية، وإعداد ميزانيات ذات بنود حجرية ذات ميزان مختل عن كل ما هو متعارف عليه فى ميزانيات كهذه، حيث غالبية البنود تكون لتنفيذ وتطوير قدرات الكيان الإدارى، بينما لا يتجاوز الـ30% من البنود ما يعرف بالإداريات.. ونواصل.
بعد المقال:
بالمصادفة، شهدت جانباً من البث التليفزيونى الحى لتوزيع جوائز مؤسسة ساويرس الثقافية، وسعدت جداً بالتقدير الذى حظى به الدكتور سيد ضيف الله عن كتابه: «صورة الشعب بين الشاعر والرئيس». وهى رسالته للدكتوراه التى تقدم بها حول قراءته لخطاب الشاعر الكبير فؤاد حداد ورؤساء مصر: ناصر، والسادات، ومبارك.. وهو العمل الذى كتبنا عنه أربع مقالات فى نفس هذا المكان وعن أهميته وجدة تناوله للموضوع فى الصيف الماضى. تهنئة للمؤلف الشاب الدكتور سيد ضيف الله بالتقدير.