قد نصفق أو نرقص أو نضرب شماريخ فى الهواء ونهنئ بعضنا البعض، ونأخذ أنفاساً عميقة من هواء نقى، ننظف بها صدورنا من تلوث لحق بها، كل هذا لأن الأجهزة الرقابية قبضت على الدكتور صلاح هلال، وزير الزراعة، ونسبت إليه فساداً فى وزارته، شاب أرضاً حاول واضعو اليد عليها تجاوز القانون وشراءها بالمخالفة له، ووسطوا شخصيات لها تاريخ فى هذا النوع من الأعمال..
وقد تكون هذه أكبر قضية تفجرت فى السنوات الأخيرة وطالت شخصيات قيادية كثيرة، لكنها قضية عادية جدا فى وزارة الزراعة، فهى معتادة على الفساد منذ ثلاثين سنة على الأقل، وعدد الموظفين الكبار الذين دخلوا السجون منها قد يفوق قطاعات أخرى، وبعضنا قد يتذكر القضايا التى شاعت إبان ولاية الدكتور يوسف والى، بالرغم من كفاءته المهنية والسياسية العالية.
المدهش أن شخصا قريبا من الوزير حذره، قبل السقوط، من المضى قدما فى الموضوع، وقال له: «بحكم العيش والملح، خذ بالك، هذا فخ».
ورد الوزير ضاحكا: «لا تخش شيئا، نحن لا يمكن أن نخالف القانون».
ثم تحدث هذا الشخص القريب مع معاون شاب للوزير، كان متحمسا لإتمام الصفقة، لكن الشاب لم يستجب، ورد بغلظة: «هو انت حـ(تخاف) عليه أكتر منى؟!».
وسقط الشاب فى براثن النيابة قبل القبض على الوزير بعشرة أيام.
وقد نسأل: لماذا تحديدا وزارة الزراعة هى الأكثر فسادا، وقد يأتى بعدها الإسكان والمجتمعات العمرانية؟!
الإجابة باختصار هى الأرض بسحرها وارتباط المصريين بها منذ قديم الزمان.
والأرض مجرد إشارة إلى فكرة أكثر شمولا، وهى أن الدولة هى صانعة الثروة الأولى فى مصر، هى سبب الملايين والمليارات التى يتمتع بها عدد ضخم من مواطنيها الأثرياء، وهذا لا يمثل إدانة لهؤلاء المواطنين، وإنما نحن نتحدث عن كيفية إنتاج الثروة وتوزيعها، تخصيص أراض، توريد سلع غذائية، تراخيص استيراد مواد للحكومة، مقاولات، مشروعات... إلخ.
لكن الأرض الزراعية كانت كلمة البدء فى لعبة الثروة، ربما منذ الربع الثانى من القرن التاسع عشر على يد محمد على باشا وأسرته، حين منح قواده ومعاونيه عطايا، مساحات من الأراضى الزراعية التى كانت كلها فى قبضة الباشا، وتُدار بنظام الالتزام، ومن العطايا تكونت طبقة الإقطاعيين الكبار، وكانت محدودة، وبجانبها شريحة أوسع من الملاك المتوسطين.
ولأن مصر وطن زراعى بالدرجة الأولى، ولم يحدث فيها نمو صناعى فعال ينقلها من مجتمع الزرع إلى مجتمع المصنع، ظلت الأرض تعبيرا عن الثروة والمكانة الاجتماعية، لكن تاريخا جديدا من علاقة الأرض بالثروة ظهر بعد الانفتاح الاقتصادى، وما صاحبه من توسع عمرانى وازدهار هائل فى سوق العقار، وتوحشت الظاهرة فى عصر حسنى مبارك، بنفس الطريقة التى توحشت بها جماعة الإخوان اقتصاديا واجتماعيا.
وكانت كلمة السر إلى عالم الثراء السريع هى «التخصيص»، من أول شقة إلى عشرات الآلاف من الأفدنة أرضا زراعية أو مبانى.
شقق وأرض للاستصلاح الزراعى ومساحات للبناء يأخذها المحظوظون وأصحاب الامتيازات والاستثناءات برخص التراب، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات (نقابات، أندية مهنية، هيئات، شركات خاصة.. إلخ)، ويبيعونها بعشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف، وبعدها الملايين (راجعوا تجربة مراقيا وماربيلا ومارينا نموذجا فى العقار المملوك للدولة، القرى الساحلية شمالا وشرقا بجمعياتها التعاونية وشركاتها أو التجمعات السكانية الفاخرة نموذجا فى أرض المبانى).
وأذكر واقعة حقيقية بطلها وزير إسكان سابق له سمعة هائلة فى الإنجاز والفساد معا، حين ذهب إلى صحفى فى جريدة قومية كبرى، ليُجرى معه حوارا، بعد أن اشتد الجدل حوله، فعرض على الصحفى تخصيص قطعة أرض له فى التجمع الخامس، فرد الصحفى: «لا أملك قيمة مقدم ثمن الأرض».
فقال له: «نخصص لك قطعتين بتقسيط المقدم على دفعات بسيطة، وبعدها تبيع (إيصال القطعة الأولى) بسعر السوق المرتفع، وبالفلوس تسدد المقدم، وتشرع فى بناء فيلا، أو تبيع القطعتين وتكسب لك قرشين».
واعتذر الصحفى بأدب..
هكذا هو الحال فى أرض وزارة الزراعة أيضا، تخصيص برخص التراب، يعقبه بيع بالملايين، وكم من مساحات كانت مخصصة للزراعة وانقلبت بفعل فاعل إلى منتجعات سياحية، ولهذا صدر قانون بعدم التصالح فى أراضى وضع اليد التابعة لوزارة الزراعة وهيئاتها، ولم تُستصلح فعليا قبل عام 2006، وعلى واضعى اليد أن يشتروها فى مزاد عام، أما الذين استصلحوا فعلا ومثبت ذلك بالخرائط الجوية، فيمكن التصالح معهم وتقنين أوضاعهم الجادة، ويبدو أن الوزارة تورطت فى العمل على تقنين متعمد لمساحة كبيرة من الأرض «وضع يد» لم يُضرب فيها فأس أو يغربلها جرار زراعى قبل عام 2006.
وقضية وزارة الزراعة مجرد حالة، رقم فى ملف ضخم، طفح جلدى فى عالم واسع مخيف تديره مؤسسة خرافية، مثل كائنات الأساطير الشبحية، هى مؤسسة الفساد.
نعم، مؤسسة تشكلت عرفيا ودون اتفاق وإعلان تأسيس مع الانفتاح الاقتصادى، وراحت تنمو برعاية كاملة وحماية عامة فى الثلاثين سنة الأخيرة، قد لا يعرف أعضاؤها بعضهم البعض شخصيا، لكن بالأسماء والوظائف والأشغال، فى الوزارات أو المقاولات أو تجارة السلع واحتكارها.. إلخ، يتساندون ويستميتون فى الدفاع عن بعضهم البعض، وهم يشبهون ركاب سفينة ضخمة يطفون فيها فى بحر الحياة المصرية، بحمولاتهم وثرواتهم وأعمالهم، وأحيانا يلقون بواحد منهم من السفينة كلما ثقلت حمولتها على السباحة الآمنة، وفاحت رائحته، وباتت تمثل خطرا على بقية الركاب، فيتخففون منه، ويخرج رجال الدعاية يهللون للشرف والنزاهة ومطاردة الفاسدين، وتعود السفينة مسارها الآمن مجددا.
ولا أريد أن أُطيل عليكم بمراجعة تفاصيل كل قضايا الفساد التى أُذيعت وتعرى أصحابها وحُبس بعضهم خلف القضبان فى الأربعين سنة الأخيرة، فالذى يسقط هو الذى قرأت السلطة الفاتحة عليه وتخلى عنه الذين يحمونه، أما الذين يسقطون بالمصادفة، فيتفنن حُماتهم فى تهريبهم من قبضة العدالة «العبَّارة الغارقة بأكثر من ألف مصرى نموذجا»، وهروب صاحبها خارج البلاد بمعرفة الكبار فى البلاد.
ومن هنا قد نفهم التناقض الرهيب بين العدد الرهيب من الأجهزة الرقابية فى مصر وتوحش درجة الفساد، فهل يُعقل أن يتكاثر الميكروب فى ظل وجود كل هذه المضادات الحيوية (36 جهازا رقابيا مختلفا)؟!
وهذا لا يعنى أن قضية وزارة الزراعة من هذا النوع، فإجراءاتها تشى بشىء مختلف، يعبر عن مناخ جديد نسبياً، لكن القضية أخطر من القبض على وزير الزراعة ورجاله الكبار، فتفكيك المؤسسة هو الأهم.