جاء الفيلم المصرى «آخر أيام المدينة» إخراج تامر السعيد، الذى عرض فى قسم «الملتقى» فى مهرجان برلين 2016، حدثا سينمائيا كبيرا، ونقطة تحول فى تاريخ السينما المصرية.
ومن الغريب، وكم فى المهرجانات من غرائب، ألا يعرض الفيلم فى مسابقة الأفلام الطويلة وفيها العديد من الأفلام التى لا تثبت لمجرد المقارنة مع فيلم تامر السعيد، وهو أول أفلامه الروائية الطويلة. وسيكون من الغريب أيضاً ألا يفوز بجائزة أحسن فيلم طويل أول لمخرجه يوم السبت القادم.
وعلى أية حال، فالخاسر مسابقة المهرجان، والخاسر سيكون لجنة تحكيم جائزة الفيلم الأول. وسيظل عرض أى فيلم فى مسابقة أى مهرجان معيارا من المعايير، وليس المعيار الوحيد، وكذلك الأمر بالنسبة للجوائز.
ولنتذكر دائماً أن إيزنشتين وغيره من الرواد الذين أسسوا فن السينما اشتركوا فى مسابقات مهرجان فينسيا، ولم يفوزوا بأى جائزة، وأن كيوبريك رفض عرض أى من روائعه فى أى مهرجان.
فى «آخر أيام المدينة» تدخل السينما المصرية عالم ما بعد الحداثة لأول مرة، فالتسجيلى والروائى فى وحدة درامية عضوية كاملة، والممثل المحترف يلتحم مع الناس العاديين فى الشوارع والأماكن، ولا تستطيع أن تفرق بينهم. والفيلم الذى تدور أحداثه فى وسط القاهرة عام 2009، شهادة عن واقع مصر الذى أدى إلى الثورة عام 2011 من خلال رؤية شاملة، ومن دون انحيازات أيديولوجية، وإن كان منحازاً مع الثورة ضد الفساد والديكتاتورية بكل أشكالها، ويدافع عن الحرية.
يأخذ «آخر أيام المدينة» شكل الفيلم داخل الفيلم، فموضوعه عن مخرج يصنع فيلماً. وهو شكل معروف فى السينما، ولكن الجديد هنا أن الفيلم تم، بينما الفيلم داخل الفيلم لا يتم. كل شىء فى الفيلم لا يتم. كل شىء معلق بين السماء والأرض، وبما فى ذلك الحب والثورة. هذا أجمل فيلم أنتج عن وسط القاهرة. إنه وثيقة وقصيدة شعر سينمائية فى آن واحد عن قلب القاهرة الخديوية. إنه مرثية للمدينة التى ضاعت: القاهرة والإسكندرية، وبيروت وبغداد أيضاً. إنه أول فيلم يربط بين مصائر المدن العربية. وما هذه الكلمات إلا تحية إلى تامر السعيد، ورشا سلطى التى اشتركت معه فى كتابة السيناريو، وخالد عبدالله الذى مثل دور المخرج، وباسم فياض الذى صوره واشترك فى تمثيله مع حنان يوسف وليلى سامى وحيدر حلو وصناع الفيلم أمام وخلف الكاميرا. وموعدنا مع التحليل المفصل عندما يعرض فى مصر، ويشاهده القراء من جمهور السينما.
رسائل من حرب
شهدت مسابقة الأفلام الطويلة عرض الفيلم البرتغالى «رسائل من حرب» إخراج إيفو م. فيريرا، الذى يعتبر من الأعمال الفنية المميزة التى تستحق الفوز بإحدى جوائز المهرجان.
هذا هو الفيلم الروائى الطويل الثالث لمخرجه الذى ولد فى لشبونة عام 1975 ودرس فيها وفى لندن وبودابست، وأخرج عشرة أفلام تسجيلية وقصيرة منذ عام 1997، ومنها عدة أفلام أنثروبولوجية صورت فى أنجولا.
كتب فيريرا سيناريو الفيلم مع إدجار ميدينا، وصوره بالأبيض والأسود جوا ريبيرو، وقام بالمونتاج ساندرو أجيولار، وبمكساج الصوت تياجو ماتوس، واستطاع كل منهم أن يثبت براعته فى فنه بحيث جاء الفيلم قصيدة من الشعر السينمائى، وذلك رغم أن أحداثه تدور عام 1971 فى أنجولا أثناء حرب الاستقلال ضد الاحتلال البرتغالى، والتى استمرت من عام 1961 إلى عام 1974، ولكنه يتجاوز موضوعه إلى آفاق إنسانية رحبة وتأملات فكرية خصبة.
السيناريو عن كتاب صدر عام 2005 يتضمن الرسائل المتبادلة بين الكاتب البرتغالى الكبير أنطونيو لبو أنتيونيس وزوجته عندما كان يخدم فى الجيش البرتغالى كطبيب، وكان عليه أن يذهب إلى أنجولا وهو فى الثامنة والعشرين من عمره من عام 1971 إلى عام 1973.
لا نرى فى الفيلم المعارك بين الطرفين، وإنما أهوال الحرب كما تتجلى فى لقطات مستشفى الميدان الذى يعمل فيه الطبيب أنطونيو (ميجيل نونيس)، وفى أصوات الألغام التى تنفجر فى شوارع القرى التى يعيش فيها أهل البلد. ولا يوجد تحليل سياسى للموقف أثناء الحرب، وإنما إدانة كاملة ومطلقة للاحتلال الذى يبدو عبثياً، فماذا تفعل البرتغال فى أنجولا. وفى إحدى الرسائل يقول أنطونيو لزوجته «الآن فهمت جيفارا»، ويعبر عن حبه وتعاطفه مع الأنجوليين ورفضه للنظرة العنصرية إليهم، واعتبار نسائهم خادمات وعاهرات.
ولا توجد قصة فى الفيلم، ولا أحداث درامية، وإنما نصوص أدبية على شريط الصوت بصوت أنطونيو وصوت زوجته ماريا- جوزيه (مارجريتا فيلا- نوفا) تعبر عن الحب الجارف الذى يربط الزوجين، فالرسائل تجمع بينهما رغم البعد.
ولا يخرج الفيلم عن الزمن الحاضر إلا فى لقطات قصيرة للزوجة فى لشبونة وهى حامل. وفى هذه اللقطات لا نراها تقرأ الرسائل، وإنما تنظر من النافذة، أو تتحرك فى المنزل مثل الطيف. وربما يبدو أن هناك تناقضاً بين اعتماد الفيلم على نصوص أدبية على شريط الصوت واعتباره قصيدة من الشعر. ولكن السينما الخالصة لا تعنى استبعاد دور الكلمة الأدبية.
وتبدو براعة الإخراج فى تجريد المجسد من أول لقطة للطبيب فى السفينة الحربية التى تقله من البرتغال، وحتى آخر لقطة لشروق الشمس فى أنجولا. ويتحقق التجريد من خلال زوايا التصوير التى تحول الواقع إلى خيال، والتناقضات بين الأبيض والأسود، واستخدام درجاتهما المتعددة على نحو تعبيرى، والاكتفاء بموسيقى اللغة الأدبية، فلا مكان للموسيقى فى واقع الفيلم.