أن اردت ان تعرف أكثرعن الحياة ،فعليك بمشاهدة السينما الجيدة ،الفيلم هو حصيلة مجموعة من الفنون ، فهو كتابة بالصور .
الفن ، ليس فعل جامد محدد بأطار معين ، لكن روعته تكمن فى أنه يحتمل التأويلات، يتعامل مع اللاوعى ، وقادر دائما على ان ينير لك الأجزاء الخفية والمعتمة من النفس الإنسانية ، كما أنه صدى للمجتمع وللعصر وللزمن الذى نعيشه .
السينما أصبحت رائدة صناعة المستقبل ،من خلال الأفلام الجيدة نشاهد عالم الغد بعين الخيال .
فى كل عام ، ينتظر العالم ترشيحات الأوسكار ، الأفلام المرشحة تكون عادة أفضل الافلام المنتجة خلال هذا العام على مستوى العالم، عادة مايكون هناك ملمح ما يتكرر فى عدد منها، موجة تنتشر فى عدد من الأفلام وخاطر يتكرر عند صناعها ،يأتى دون تدبير او قصدية ولكن تشعر ان صناع السينما الجيدة مشغولى البال بفكرة أواطروحة ا يبحثون لها عن اجابة او تفسير عبر مايقدمونه من أعمال .
العالم مشغول بالهوية ،ومايتصل بها من معانى ، العالم يزداد اتساعا نتيجة ثورة الاتصالات والتواصل والتدفق فائق السرعة للمعلومات والأخبار ، مما جعلنا نعيش لحظة بلحظة حول العالم ونحن لم نغادر مقاعدنا .
المصطلحات الكلاسيكية والمعانى المستقرة فى الأذهان ،لم يعد لها مكان فى عصر يعيد صياغة المفاهيم من جديد على ضوء مانعيشه من أحداث متسارعة.
فى فيلم" Dogtooth" (الناب) للمخرج اليونانى يورجس لانثيموس ، وهو مخرج متميز بأعماله التى تناقش السلطة والتسلط ، يناقش لانثيموس افتراضية غاية فى الأهمية،ماذا لو استطاع شخص ان يعزل آخرعن العالم الخارجى، حيث يكون له السلطة المطلقة ،لدرجة أن يتلاعب بالمفردات المستقرة ويعطيها معانى جديدة. الفيلم يدور حول أب يعزل ابنائه الثلاثة بموافقة من الأم ومباركتها ،فى منزل فسيح محاط بأسوار عالية تمنع تماما رؤية ما يدور خارجه ، الأب يقنع ابناءه أن فى الخارج وحوش على هيئة القطة ( الحيوان الوحيد الذى يعرفوه )ستقوم بتمزيقهم والتهامهم .
وهو يقنعهم بأنهم مازالوا صغارا على مواجهة هذا العالم (دائما المستبد يجد حجة أن المستبد به ليس مؤهلا للأختياروالحياة بإرادته )وهو يعطيهم أمل خادع يدرك تماما أنه لن يحدث ، فهو يقول لهم انهم سيكونوا مستعدين لمغادرة المنزل والخروج للعالم الخارجى عندما يقع نابهم ، وهو مايجعل الأبنه الكبرى تكسر نابها بآلة حادة لتخرج من عزلتها.
الأب يعلمهم أن البحر معناه المقعد الذى يجلسون عليه ،وحينما تسأل الأبنه الكبرى امها عن معنى كلمة"مهبل " المكتوبة على علبة وجدتها فى حجرة المعيشة تقول لها ان معناها المصباح ، وحيتما يستمع الأبن الشاب لكلمة زومبى بالصدفة تقول له أمه ان معناها الوردة الصفراء .
فى مقابل فيلم "ناب" الفظ ، الذى يجعلك تفكر فى اسوأ سيناريوهات العزلة وكيف تغير فى فطرة الإنسان ،تسعى الأفلام الهامة والمرشحة للأوسكار، ان تقدم لك عالما أكبر بكثير مما تتصوره ، عالم يبدأ فيه آدم القرن الواحد والعشرين فى تعلم الأسماء من جديد ،فهى ليست تلك التى رددها أجداده من قبل ولم تعد تلائم زمنه .
"الوطن " أحد هذه المصطلحات الذى يبحث لها صانعى السينما عن معانى جديدة تتلائم مع العولمة واتساع العالم ومفارقات الهوية، فمن بين ثمانى افلام مرشحة للأوسكار كأفضل فيلم ، خمسة منها يبحثوا عن معانى جديدة للوطن، فالمعنى القديم ضاق على الفكر الجديد، وهذه الأفلام هى :بروكلين ، المريخى ، الحجرة ، جسر الجواسيس وماكس المجنون .
الأفلام الخمس تدور فى أزمنة مختلفة : فى الماضى والحاضر والمستقبل القريب والبعيد ، "بروكلين" يدور فى اوائل الخمسينات من القرن الماضى ،و"جسر الجواسيس " ايضا فى فترة الحرب الباردة ،"الحجرة "فى الحاضر، "المريخى "فى المستقبل القريب فهو يقوم على فكرة إمكانية الحياة على كوكب المريخ وهو ماكدنا أن ننجح فيه ، أما فيلم "ماكس المجنون "فهو يبدأ مع نهاية العالم الذى نعرفه ، فهو بقايا العالم الذى خربناه من جراء سوء أعمالنا.
فى بروكلين ، الوطن شجن وحنين ، والوطن حبيب وأمل الجديد .
وللحديث بقية مع بروكلين فى المقال القادم بإذن الله.
[email protected]