هل كان ينبغى أن ينتظر الفيلم كل هذه السنوات التي وصلت إلى خمس حتى يعرض قبل أيام قلائل في مهرجان برلين، داخل قسم يعتنى بالتجارب التي تحمل عادةً طموحا سينمائيا، وهو «الملتقى»- معوقاتٍ عديدة، لعبت دور البطولة في تعثر التجربة عن الانطلاق- ليس الآن مجال شرحها وتفنيدها- لأنها في الحقيقة لا تخص فقط الفيلم، ولكنها تنسحب على صناعة السينما المصرية التي لا ترحب سوى بالإنتاج التقليدى، وتتوجس خيفة تجاه كل ما هو مختلف، أو لديه مجرد شروع في أن يصبح نفسه على الشاشة.
الرهان الصعب أن يتأجل عرض الفيلم- أي فيلم- عن موعده الطبيعى، ورغم ذلك تستشعر أنه ولد في هذه اللحظة، وأن سنوات التأجيل كانت هي تحديدا سنوات الاكتمال، حيث يثير بداخلك الكثير من الأسئلة التي تصاحبك قبل وأثناء وبعد المشاهدة.
الفيلم تم تنفيذه قبل الثورة- أقصد 25 يناير- برغم أن مخرج الفيلم، الذي ساهم أيضا في الكتابة والإنتاج (تامر السعيد) في أول تجربة روائية له، حيث كان يرصد حالة التمرد في مصر ضد حكم مبارك. تامر شارك في الثورة، ولكنه لم يشأ أن يضع خط الثورة وإجبار مبارك على التنحى لتصبح هي الذروة للشريط السينمائى، لأنها كانت في هذه الحالة ستحجب الرؤية عن هدفه العميق. ما يقدمه الفيلم من فساد لم ينته بإزاحة رأس النظام، فلا يزال يعشعش بالمدينة جذور الفساد الذي يحميه سدنة متخصصون في تسويق أنفسهم في كل العصور مدعوما هذه المرة بالبذاءة التي أصبح لها رواد تحميهم الدولة، ربما لأنها تعلم أن لهم دورا ما سيسند إليهم في اللحظة المناسبة.
الفيلم صار وثيقة قابلة للتداول لتصبح شاهد عيان على زمن برغم أنه لا يزال ماثلا أمامنا، إلا أن البعض يحاول أن يطمسه. الأحداث التي رصدها تامر ستظل حاضرة في الذاكرة تكشف بالضبط حتمية ثورة يناير، فهى نتاج منطقى وحاسم ورد مباشر على من يحاولون إهالة التراب على أشرف اللحظات التي عاشها الوطن، عندما قرر أن يتخلص من الفاسد الأكبر. تراكمات السنين في السنوات العشر الأخيرة السابقة على الثورة هي بالضبط مفتاح الثورة، وهى أيضا مفتاح الفيلم.
القاهرة هي العشق- وتحديدا قلب العاصمة- (وسط البلد)، خالد عبدالله يؤدى دور المخرج، ولكن لا تعتبرها سيرة شخصية، حيث إننا نتابع الفيلم الذي يتم تصويره أثناء الفيلم، وهو موقف شاهدناه كثيرا خاصة مع التجارب الأولى للمخرجين، عندما يكسر الخط الوهمى بين صانع الفيلم والفيلم. الممثل خالد عبدالله هو صانع الفيلم، الذي يؤدى دور المخرج، وهو يلتقط كل شىء، مظاهرات (كفاية) التي لعبت دورا في طرق الباب لتناول بقاء مبارك، وتفضح بصوت عال سيناريو التوريث.
الفيلم يضرب في كل الاتجاهات يرصد العنف ضد المرأة، عندما تلتقط الكاميرا رجلا يشبع زوجته أو ربما شقيقته ضربا، نرى كيف أن معاول الهدم تنشب فيها بعشوائية، ويلتقط من خلال العديد من التفاصيل تغير الحياة ومفرداتها داخل الوطن، ويتغلغل التوحش الذي يتدثر بالتقوى والإيمان ليقبض على الروح وليس فقط الجسد، مصر عاشت في لحظات قاسية جدا، وهى ترى الدنيا تتغير حولها، وهى تتغير أيضا، ولكن نحو بحر الفساد الذي لا يستحيى أبدا ولا يعرف الخجل، وكانت الرؤية التي اتكأ عليها المخرج ليقدم شريطه هي أن يتوحد أبطاله، مثل ليلى سامى وحنان يوسف، مع الشخصيات التي يلعبونها، هم في الحقيقة لا يقدمون أنفسهم، ولكنهم يصبحون وجها آخر للشخصية، كما هي على الورق.
الرسم الدرامى للشخصيات التي يقدمها خالد عبدالله -وهى شخصية المخرج- ليس بالضبط الواقع، ولكنك لو اعتبرتها كذلك، فلن تتغير الرؤية، حيث إنك تستطيع أن تقرأ الفيلم في نفس اللحظة تسجيليا بزاوية أو روائيا بزاوية أخرى، دون أن تشعر بخيانة أي من الخطين.
من اللقاءات التي تدعم التوثيق تلك التي تجمع خالد مع «أبلة فضيلة» الإذاعية الشهيرة فضيلة توفيق، وبرنامجها عن الأطفال، حيث يطلب منها خالد أن تحدثه عن أبيه الشاعر الذي كان يكتب لها الأغانى في البرنامج، يريد أن يجمع خيوطا عنه أو وهو يتناول الأم التي اشترطت قبل أن تعود للتمثيل أن تُقدم فقط أدوارها، وهى ترتدى الحجاب، لأن هذا من وجهة نظرها هو صحيح الدين، ويخرج من الخاص والشخصى جدا إلى العام، عندما نرى استديوهات الإذاعة، وكيف أن بجوار الاستديو تم نزع جزء من الأرض ليصبح زاوية للصلاة، والحقيقة أن المبنى كله وفى العديد من أدواره صار كذلك، برغم أن الدولة منذ الستينيات أنشأت جامعا من الممكن أن يتسع لكل المصلين، وهذا يكشف كيف أن المقصود من تعدد تلك الزوايا التأكيد على أن المبنى الرئيسى في الإعلام، تحكمه رؤية دينية تفرض قانونها على الجميع.
البطل يبحث عن شقة يطل منها على المدينة، والعلاقة مع السمسار تُقدم بقدر كبير من التلقائية والارتجال في الحوار، المخرج حدد هذا المنهج ليضمن دائما تدفق التعبير، كثيرا ما يلجأ تامر إلى اللقطات الكبيرة جدا التي تنقل تفاصيل التجاعيد على وجه ويد الأم أو تلك التي تنقل نظرة العين بين أبطاله وكأنه يوجه لنا دعوة لكى نصل إلى مسام شخصياته.
لا يزال التوثيق فاعلا ومؤثرا في كل ملامح الفيلم، وهكذا نتابع ما يجرى من خلال نشرات الأخبار والمظاهرات التي كانت تطالب بسقوط مبارك وحكم العسكر وتلك التي تتناول مباراة مصر والجزائر وانشغال رئيس الجمهورية الأسبق بتلك المباراة وتورط علاء مبارك في تهييج الرأى العام، وبعدها نشهد كالعادة تواطؤ الإعلام المصرى في محاولة دؤوبة لإثبات ولائه للسلطة الحاكمة، حيث صارت كل الآمال في الوطن معقودة على أن يتمكن حسن شحاته من انتزاع كأس الأمم الأفريقية، وكيف أن نشرات الأخبار تتصدر مدى متابعة الرئيس بل تفرغه فقط للكرة، النظام كان يحاول أن يُمسك بذيل حسن شحاتة ليصبح هو طوق النجاة لحكم تتداعى أركانه، ويذهب إلى غيبوبة، ولم تفلح معه كل محاولات الإفاقة، حيث باتت اهتمامات الرئيس لا تتجاوز الساحرة المستديرة. وسط هذا الصخب السياسى، لم ينس التوقف أمام محرقة بنى سويف، التي راح ضحيتها العشرات من شباب المبدعين، بينما برأ القضاء المصرى وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى.
تميز الشريط بحالة تشكيلية رائعة شارك في صُنعها الفنان العبقرى الرائع الراحل صلاح مرعى، مواقع التصوير الواقعية تفيض بالغنى البصرى، وكأن المخرج بقدر ما يقدم يوميات فارقة في عمر الثورة نرى في العمق هذا العشق لوسط المدينة الزاخر بالإبداع، وتتسع الدائرة لنطل على الواقع العربى إلى ما يجرى في بغداد وبيروت لتصبح المدن العربية كلها في حالة حزن ونواح على ما آلت إليه الأوطان، حيث الموت يصبح هو الثمن، لكن الثورة في الشارع لا تتوقف، بينما نرى بيتا قديما يتم هدمه وكأنه إرهاصة لنهاية نظام فاسد، كنت أرى أن اتساع الدائرة عربيا غير مشبع فنيا، وكان من الممكن التركيز فقط على ما يجرى في مصر، لأنه لم يستطع أن يخلص لتلك الخطوط الدرامية الجانبية.
الفيلم لا ينطق بلسان المخرج، ولكنه يدفعك أنت لكى تقول، حيث تغلغل الصبغة الدينية على كل شىء، وصارت ترسم ملامح الحياة، إلا أنها في نفس الوقت تأخذ من الدين القشور.
الثورة كانت هي الضرورة والحل والحسم، وتوقف الفيلم عن الكلام المباح، ويبقى السؤال: هل تسمح الدولة في ظل حالة نراها جميعا من انحسار مساحات الحرية وإغلاق الأبواب.. هل تمنح الفيلم فرصته رقابيا؟ وإذا نفذ من سيف الرقابة، فهل يستطيع أن يجد دور عرض ترحب به، بينما يسيطر على سوق السينما نظام احتكارى يتيح للمنتج أن يصبح هو صاحب دور العرض والموزع؟ هل يسمحون بعرض فيلم يؤكد حتمية الثورة، بينما عدد منهم يناصبون الثورة العداء؟
«خارج النص»:
■ لم تعرض نصف أفلام مسابقة مهرجان برلين حتى كتابة هذه الكلمة، ولكنى بعد أن شاهدت الفيلم الإيطالى (النار في البحر) للمخرج جينا فرانكو روزى، أشعر أن الدب الذهبى، وهو أهم جائزة في برلين، تنتظره على أحر من الجمر، إنه الفيلم الذي يتبنى بإبداع وألق رسالة المهرجان في هذه الدورة التي تتعاطف مع كل المستضعفين واللاجئين في الأرض!!
■ التواجد المصرى يشكل عمقا استراتيجيا في المهرجان. عدد من المخرجين الشباب، مثل ماجد عدلى وهبة أمين، يتواجدون بكثرة ليعلنوا أن السينما المصرية بخير، الاقتحام أحد معالم أصحاب المواهب، ولهذا أنتظر تجاربهم، وضبطت جدولى المتخم أصلا على مواعيد أفلامهم القصيرة.
■ بسبب أحيانا وبدون سبب في أغلب الأحيان، يحاولون طرح نفس الأسئلة، وترك الإجابات مفتوحة: هل تزوج حليم من سعاد؟ وهل قُتلت سعاد، أم انتحرت؟ وهل كان عبدالحليم قادرا على الزواج أم لا؟ والغريب أن من يعيدون طرح هذه الأسئلة هم من يقدمون أنفسهم باعتبارهم الأوفياء الأصدقاء!!
■ هل الورثة أحرار في العبث بالإنجاز الأدبى لمورثهم؟ عدد من دور النشر بات يحذف فقرة أو يغير عنوانا يجنبه معارك ضارية مع المؤسسة الدينية التي صارت أشد ضراوة في السنوات الأخيرة.
يقينى أن الحقوق المادية حق مطلق للعائلة، ولكن الحق الأدبى لا يملكه فقط الورثة، لا يحق لأحد أن يعيد نشر العمل الفنى بعد تهذيبه، هذا اعتداء صارخ على روح ليس فقط العمل الفنى، ولكن روح صانعه، كيف نجرح أرواح من غادرونا ن، وكما قال شوقى: «يا منصف الموتى من الأحياء»!!