شجعنى على كتابة هذا المقال ما بدأ به محمد على باشا من زراعة شجرة كانت تُزرع على استحياء - فى مصر - كشجرة للزينة.. ولكنه بدأ بها مشروعه للنهوض بمصر، تلك هى شجرة - أو شجيرة القطن - وما شجعنى أكثر هو تبنى القوات المسلحة - هذه الأيام - مبادرة التوسع فى زراعة أشجار الزيتون.. خصوصاً أننا بدأنا نعانى من نقص المياه.. وهذه الشجرة - الزيتون - لا تحتاج إلى مياه كثيرة.
وقصة مصر مع القطن - كمحصول زراعى - بدأت عام 1821، وكان القطن يُزرع فى مصر وقتها من صنف ردىء يصلح فقط للتنجيد! ولكن كان هناك نوع نادر يزرع فى الحدائق ويفوق القطن القديم فى طول تيلته.. وفى نعومته.. وكان يُزرع كأنه من أشجار الفاكهة وتغزله النساء فى البيوت.. وحدث الانقلاب الكبير عام 1821 عندما شاهد مسيو جوميل الذى استعان به محمد على من فرنسا لتطوير مصانع النسيج فى مصر، نقول شاهد الرجل شجرة فى حديقة محو بك - وكان من كبار رجال محمد على - من هذا النوع الجيد من القطن.. فأعجبته رتبته، وأشار على الوالى محمد على باشا أن يعمم زراعته، وكما يقول مؤرخنا الكبير عبدالرحمن الرافعى: فطن محمد على لما يمكن أن تكسبه مصر إن تبنى الفكرة.. وأكثر من زراعة هذه الشجرة.. فقرر تبنى الفكرة.
ولم تمضِ سنوات قليلة إلا وقام محمد على بإنشاء السواقى اللازمة لرى الأراضى التى تزرعه، واشترى المحصول بأسعار عالية لتشجيع الفلاحين على زراعة هذا القطن.. فانتشرت زراعة هذه الشجيرة وصار يُعرف باسم قطن محو بك، أو قطن جوميل.. ثم أدخل محمد على نوعاً آخر هو قطن سى أيلاند الأمريكى.. وأخذ القطن المصرى ينافس قطن البنجال الهندى، وأيضاً القطن الأمريكى نفسه، وذاعت شهرته حتى أقبلت عليه مصانع فرنسا وإنجلترا، وتقدمت زراعته وأخذ محصوله يزداد عاماً بعد عام.. وفى عام 1827 صدَّرت مصر - من هذا القطن - 344 ألف قنطار، وأصبح هذا القطن عماد ثروة مصر الزراعية، إذ كان عائد زراعة القطن أكثر كثيراً من عائد زراعة الحبوب والغلال، وتوسعت مصر أكثر بحفر العديد من الترع وإنشاء المزيد من المساقى وإقامة الجسور والقناطر، فتوافرت مياه الرى اللازمة للقطن.
وبزراعة القطن انطلق محمد على فى إقامة مصانع الغزل والنسيج فى الخرنفش وبولاق والسبتية والمبيضة وقليوب وشبين الكوم والمحلة الكبرى وزفتى وميت غمر والمنصورة ودمياط ودمنهور وفوة ورشيد.. وحتى فى بنى سويف وأسيوط والمنيا وفرشوط وطهطا وجرجا وقنا.. وانطلقت مصر تصدر غزل القطن إلى إيطاليا وألمانيا وسوريا وتركيا.. وهكذا دخلت مصر عصر زراعة وتصنيع القطن.. وهى القاعدة التى سار عليها حفيده الخديو إسماعيل.
الآن تتبنى القوات المسلحة المصرية مبادرة الرئيس السيسى لزراعة مليونين ونصف المليون شجرة زيتون فى سيناء.. ثم إلى الواحات فى الفيوم وفى سيوة والوادى الجديد.. والبداية هى زراعة 26 ألف فدان بأشجار الزيتون.. لماذا الزيتون بالذات؟
الإجابة هى أننا دخلنا عصر نقص المياه.. وبدلاً من أن نتوسع فى زراعة الأرز الذى هو أكثر الزراعات حاجة للمياه.. نتجه الآن إلى زراعة الزيتون بسبب انخفاض حاجته لمياه الرى.. ثم إنها شجرة تجود زراعتها فى الأراضى شبه الصحراوية، أى شبه الجافة.. وهى أيضاً شجرة معمرة تعيش مئات السنين.. ولا تحتاج إلى عناية كبيرة.
وشجرة الزيتون شجرة اقتصادية فى المقام الأول.. بل وقام عليها اقتصاد كثير من الدول - بالذات فى حوض البحر المتوسط - بل ويمثل الزيتون مصدراً أساسياً للاقتصاد بها، وتأتى إسبانيا فى المقدمة، ثم إيطاليا فاليونان، ثم تونس وتركيا والمغرب وسوريا والبرتغال والجزائر، وتأتى مصر فى المركز العاشر، وإذا كان الإنتاج الإسبانى يصل إلى ثلاثة ملايين طن، وهى الأولى، فإن إنتاج مصر يدور حول 120 ألف طن مترى.. فقط.
وهى شجرة معمّرة.. وهناك أشجار فى فلسطين يتجاوز عمرها 2000 عام.. ويصل إنتاج إسبانيا وإيطاليا وحدهما إلى نصف محصول العالم من الزيتون، وهناك فى العالم حوالى 6 ملايين فدان مزروعة بالزيتون تنتج حوالى 10 ملايين طن مترى سنوياً.
والزيتون محصول اقتصادى إما يُؤكل بعد تمليحه.. أو يُعصر لإنتاج الزيت، وهو أفضل الزيوت النباتية وأكثرها صحة.. بل إن ما يتبقى بعد عملية عصر الزيتون يتحول إلى طعام للمواشى ومزارع الأسماك والدواجن.. ويعتبر الزيتون أساساً حيوياً، اقتصادياً، لكثير من الدول مثل إسبانيا واليونان، وتونس وباقى دول شمال أفريقيا، ويعتمد عليه الأشقاء فى فلسطين والأردن وسوريا وغيرها.
■■ وأتمنى أن نتوسع فى هذا المشروع الذى يستهدف الخروج من الدلتا إلى المناطق الصحراوية، ليصبح عماداً اقتصادياً يعطى عائداً كبيراً.. ويوفر فرص عمل لهذه المناطق خارج الدلتا.. ومن أهداف التوسع زيادة حجم صادرات مصر من زيت الزيتون البكر - المعصور على البارد - لندخل أكثر إلى عالم الدول التى تحصل على مليارات الدولارات لتصدير هذا الزيت.
وهى شجرة مباركة - كما جاء فى القرآن الكريم - يمكن أن تتحوّل إلى الكنز الذى يدعم الاقتصاد القومى، ربما تعطينا كما أعطانا القطن زمان!!