العنوان أعلاه عنوان يتكرّر اليوم بتنويعات مختلفة فى الصحافة العربيّة، فالاستعمار أو الإمبرياليّة شرّ مطلق، وعن الشرّ لا ينجم إلّا الشرّ. أمّا العالم العربىّ فليس ملائكياً طاهراً فحسب، بل هو أيضاً موضوع للاستعمار، عديم الإرادة والطاقة حيال خططه الشيطانيّة.
المدهش أنّ الكُتّاب الأكثر استخداماً لهذا المعنى، أو لهذا المضمون، مصريّون، أى من أبناء البلد الذى لم يُفتّته الاستعمار، لأنّه ببساطة كان بلداً واحداً قبل وفادة الاستعمار، وكانت تناقضاته الأهليّة أضعف من أن تطيح بوحدته الدائرة حول مركز واحد.
إنّه البلد الأكثر تحذيراً من سايكس بيكو فى ذكراها المئويّة، علماً بأنّه لم يتعرّض لأىّ سايكس بيكو. أمّا ما يُنسب إلى الاستعمار تفتيته فبلدانٌ لم تكن بلداناً لكى تتفتّت، بل كانت أجزاء وأشطاراً، على غير شكلها الترابىّ والإدارىّ الراهن، من الدولة العثمانيّة. وهى أيضاً لم تكن موحّدة فى داخلها لكى يفتّتها الاستعمار: يكفى وجود «جبل العلويّين» و«جبل الدروز» و«حارة النصارى» و«حارة اليهود»، ومذابح 1860 فى دمشق وجبل لبنان، ومنازعات العراق الطائفيّة فى بدايات العهد الاستقلالىّ لتبين ذلك.
صحيح أنّه منذ احتلال إبراهيم باشا سوريا فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ثمّ مع التنظيمات العثمانيّة فى النصف الثانى من القرن نفسه، تغيّرت هذه المنطقة بفعل الاحتكاك بالغرب، فاتّسعت حصّة التجارة فى الاقتصاد، وتراجعت الحرفة أمام البضائع الأجنبيّة، وتقدّمت المدن الساحليّة على حساب تلك الداخليّة، وصعد دور الأقليات، التى بات أبناؤها أكثر تأهيلاً للاضطلاع بدور الوساطة الاقتصادىّ والثقافىّ والتربوىّ مع الغرب. ومن هذا القبيل تحوّلت العصبيّات القديمة من عشائر وقبائل إلى طوائف بمعناها الحديث والرأسمالىّ المُمَأْسَس، وكان طبيعياً بالتالى أن ينعكس ذلك التفاوت تفاوتاً فى قبول الوافد الغربىّ واستقباله، وفى العمل فى إداراته ومؤسّساته. لكنّ اختصار عمليّة معقّدة كهذه بالمؤامرة، وإدراج الاحتكاك الأوروبىّ والرأسمالىّ بالعالم غير الأوروبىّ فى هذه الخانة أقصر الطرق إلى تحويل التخريف إلى تأريخ، وإلى استخلاص نظرتنا إلى الماضى والحاضر والمستقبل من هذه الرواية الزائفة.
وفى الحالات جميعاً، إذا بدا الأمر ممكناً من قبل، جرياً على ما تفترضه محفوظات قوميّة سهلة وفقيرة يهرب أصحابها من مواجهة مسؤوليّاتهم، فهذا ما يبدو اليوم عبثاً محضاً لا يثير إلّا التشكيك فى رجاحة أصحابه. وهو إنّما يغدو مريباً حين يرفع المسؤوليّة عن أنظمة استبداديّة معظمها غزير الإنتاج فى هجاء «المؤامرة» الاستعماريّة إيّاها.
فمع تقدّم مجتمعاتنا إلى صدارة المشهد، وضمور الأنظمة الحائلة دون انقشاعها، بعدما اضطلعت لعقود فى شحذ تناقضاتها، انكشف أنّ ساعة المؤامرات لم تعد تشير إلى وقت المجتمعات، وأنّه بات علينا أن ننظر قليلاً إلى دواخلنا.
أمّا لماذا تتصدّر مصر هذه الدعوة فلأنّها مُحيَّرة اليوم بأمرها وبدورها أكثر ممّا فى أىّ وقت سابق: هل كانت سنواتها الخمس الماضية سنوات ثورة أم فوضى؟ هل يحكمها عهد ثورىّ أم عهد اعتذار عن الثورة؟ هل هى حليفة الغرب أم خصيمته، وماذا عن إسرائيل؟ ما طبيعة البرلمان الذى انتُخب مؤخّراً بإقبال شعبىّ لا يُعتدّ به؟ وكيف التوفيق بين عظمة المشاريع، منشآتٍ وقنواتٍ ومدناً، وبين تخبّط الواقع؟ وهذه معضلات ومآزق فى الحياة والأفكار لا تحلّها الإحالات على مؤامرات الغرب، فحين يصل الأمر إلى «الأمن القومىّ العربىّ» الذى اخترعه مثقّفون وضبّاط ورجال أمن مصريّون، والذى يُفترض بمصر أن تكون حارسته وحاميته، يبدو طبيعياً ألّا يتبقّى إلّا المؤامرة تفسيراً لانهيار ذاك الأمن الذى وُلد منهاراً، ولوظيفة الحراسة والحماية التى لم تتبخّر على حين غرّة!.
نقلاً عن جريدة «الحياة» اللبنانية