حين أوشكت حرب أفغانستان على الانتهاء، بدأ الحديث عن مصير «الأفغان العرب»، أولئك الشباب الذى جرى تجنيدهم وحشدهم وتدريبهم من قبل المخابرات الأمريكية، عبر بعض الوسطاء العرب، من حكومات ومن جماعة الإخوان، وتحدث البعض فى مصر، وقتها مطالبين الدولة بأن توفر فرص العمل للمصريين الأفغان العائدين وأن تحتضنهم، كما فعلت مع المجندين بعد حرب 1973، لاحظ -هنا- أن هؤلاء ساووا بين مجندين قاتلوا لعبور القناة ولتدمير خط بارليف وتحرير سيناء، داخل الجيش الوطنى؛ وآخرين «مرتزقة» استخدمتهم المخابرات الأمريكية فى فصل من فصول الحرب الباردة لإضعاف الاتحاد السوفيتى أو خلق «فيتنامهم الخاصة» كما عبر مستشار الأمن القومى الأمريكى زمن الرئيس «جيمى كارتر» فى حديث دار بينهما.
والذى حدث أن «الأفغان العرب» عادوا إلى بلادهم ليحاولوا تكرار المأساة الأفغانية فى بعض البلاد العربية، حدث ذلك فى الجزائر الشقيقة وفى مصرنا أيضاً، وتبين أن هؤلاء العائدين لا يريدون وظيفة ولا تأمين حياة خاصة، بل يسعون إلى إسقاط الدول، وإقامة ولايات طائفية صغيرة، وأن القتل والتخريب صار هدفهم النهائى، وقتها وقفت بعض الدول الغربية تفرك يديها بحبور وتحاسبنا بالقسطاس فى إجراءات الديمقراطية التى تتبع مع هؤلاء الإرهابيين، ومؤخراً.. مؤخراً جداً انتبهت تلك الدول إلى أن الأفغان العرب خطر انتشر فى العالم كله، بعد حادث 11 سبتبمر 2001، وكان أن أخطأت الولايات المتحدة فى التعامل مع الأزمة فأسقطت صدام حسين والدولة العراقية بأكملها، ليحل محله عشرات غيره، فتتوا العراق، وثبت أن كلا منهم أبشع فى ديكتاتوريته وعنفه بمراحل من صدام.
الأمر فى حالة داعش، جد مختلف، من قبل كنا بإزاء الأفغان العرب، الآن نحن بصدد الدواعش الأوروبيين، وهؤلاء لم ينتظروا حتى تنتهى الحرب فى سوريا وفى العراق، بل انطلقوا أثناءها إلى أوروبا، يعيثون فيها إرهاباً وإظلاماً، المسؤولون البريطانيون تحدثوا عن أن أجهزة الأمن ضبطت فى الشهور الستة الأخيرة سبع عمليات جرى التخطيط لتنفيذها فى بريطانيا، ومن قبل تحدثت الـ FBI فى الولايات المتحدة عن ضبط أربع خلايا داعشية داخل الولايات المتحدة تخطط لعمليات إرهابية داخل الولايات المتحدة، وهكذا ثبتت عولمة الإرهاب، الفقر يمكن أن يكون من نصيب بعض المجتمعات والغنى كذلك، الشىء نفسه بالنسبة للتقدم العلمى والتكنولوجى، لكن الإرهاب أصبح من نصيب الجميع وللجميع بكل أسف.
ما حدث فى باريس والتهديدات التى تتعرض لها بلجيكا وغيرها يؤكد أن الإرهاب بات ظاهرة عالمية، ويجب أن تكون مواجهته كذلك، وهذا ما نرى فيه قصوراً كبيراً، على المستوى العالمى، تركت سوريا وحدها، يتعرض شعبها لما يشبه حرب الإبادة، على مدى أربعة أعوام، والضمير العالمى مستريح، على الأقل غير قلق ولا منزعج، وتركت الموصل كذلك وبعض مناطق العراق، وهكذا الحال فى ليبيا، بل إن ليبيا جرى- فعلياً وعن عمد - تسليمها للإرهابيين من الإخوان وكافة فصائلها، وترك الشعب المصرى يواجه حملات إعلامية وسياسية، بعضها يمكن أن تعد «قذرة»، لأنه رفض- يوم 30 يونيه – الاستسلام للإرهاب وللإرهابيين.
وفى اجتماعات فيينا، أعلن وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» أن غارات طيران التحالف نجحت إلى حد كبير، وأنه تم تحجيم داعش داخل سوريا والعراق، وعدم تمدد التنظيم خارجها، صحيح أن ما حدث فى باريس جاء بعد تلك التصريحات وقبلها ما حدث فى الضاحية الجنوبية فى بيروت يؤكد أن داعش لم يتم تحجيمه، بل إنه يتجه إلى التشعب والتمدد فى كل مكان، حتى عاصمة مالى «باماكو»، والواضح أننا بإزاء عملية تمدد لداعش، الأمر الذى يشكل خطراً على الإنسانية كلها.
خطورة تصريحات الوزير «كيرى» أنها تكشف أن التفكير الأمريكى فى هذا الجانب، هو تفكير يقوم على الاكتفاء بداعش فى سوريا والعراق، وأن الهدف النهائى هو «تحجيم» داعش وليس القضاء عليها، صحيح أن القضاء على داعش ليس مهمة أمريكية فقط، بل هى مهمة دولية وإنسانية، وبالتأكيد يجب أن يكون لبلدان المنطقة الإسهام الأكبر فى ذلك، باعتبار أننا أول المضارين من داعش، مادياً ومعنوياً.
ولعل أحداث باريس تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر فى تفكيرها وتعاملها مع الظاهرة الداعشية.
الغريب أن أحد المعلقين فى BBC العربية ذهب إلى أن إزاحة محمد مرسى والجماعة فى مصر، هو سبب ظاهرة داعش، رغم أن مدينة «الرقة» السورية سقطت فى يناير 2013، والشواهد تؤكد أن ذلك كان لحظة نشوة المتأسلمين والإرهابيين بوصول الأب الروحى لهم إلى سدة الحكم فى مصر ورغم أن إزاحة الإخوان من الحكم تم عبر ثورة شعبية شارك فيها 34 مليون مواطن ومواطنة، وهى ثورة انحاز إليها الجيش المصرى وكافة مؤسسات الدولة، فضلاً عن قوى المجتمع المختلفة.
مواجهة الإرهاب عالمية، لكن مواجهة التطرف والتشدد الدينى المتأسلم، هى قضيتنا فى المقام الأول، قضيتنا جميعاً، سياسيين ومثقفين ومفكرين وعلماء دين ورجال تربية، فضلاً عن الصحافة والإعلام، وهذا ما لم يتم حتى الآن بالقدر الواجب، رغم الجهود الكبيرة التى قامت بها بعض الجهات وبذلها بعض الأفراد من المجددين أو الساعين إلى التجديد.