الصمت فى حرم الجمال جمال. ما زلت لا أصدق هذه الرسالة البديعة التى تلقيتها من «ريم العبدلى» العراقية المقيمة بالقاهرة، وتشتمل على سيرة ذاتية تستحق أن نقرأها باهتمام.
■ ■ ■
«أحيانا لا أصدق أننى مررت بكل هذه المحطات. أدركت ذلك الآن حينما طرقت أبواب الأربعين، عندما رأيت شعرة بيضاء بين خصلات شعرى الأشقر.
من أين أبدأ؟ من بيتى فى بغداد- رعاه الله- الذى لم أعد أدرى من يسكنه! من ابتسامة مربيتى وهى توقظنى فى الصباح! من رائحة الخبز الساخن والتفافنا حول مائدة الإفطار! من أغانى فيروز التى اعتدنا أن نستقبل بها الصباح! من الغفلة السعيدة عما تخبئه الأيام لنا.
لم نكن ندرى أن الحرب توشك أن تندلع، ومعها ستبدأ رحلتى التى لم تنته بعد.. مع حقيبة سفر. حقيبة تضم كل ما أملك من ذكريات وصور. كلما آلمتنى صورة مزقتها ورميتها بأقرب سلة مهملات، وأنا أعرف أننى أمزق قلبى معها. لكن الألم يكون أحيانا فوق الاحتمال!
محطات! برغم عملى فى أرقى منظومة فى العالم (الأمم المتحدة) لم أكن سعيدة. لم أشعر يوما أن هذا ما أريد. كنت مرهقة. وبرغم أننى كنت شابة وصغيرة فقد كانت ترهقنى الذكريات. تنقلت من مدينة لمدينة، حتى استقر بى المطاف فى سويسرا، ومعى- كالعادة- حقيبة السفر. لم أحتمل الغربة فى أجمل بقاع الأرض. كنت أشعر أن عمرى مائة عام برغم أننى كنت فى العشرينيات وقتها. حتى الحياة المرتبة والطبيعة التى تأخذ القلب من فرط جمالها لم تستطع غير أن تراكم على قلبى حزنا فوق حزن. لم أحب أوروبا. كانت باردة. خاوية وكأنها قبر. هناك أشياء يصعب أن تفهمها إلا لو جربتها. وحتى الرجال الذين طرقوا أبوابى كان يدخلون عابرين. لم أستطع حتى أن أكمل فنجان القهوة مع أحدهم. افتقدت دائما ذلك الإحساس المفعم بالفرح والوجع والشغف والبهجة. وقررت أن أستقيل من عملى وأترك أوروبا، وأذهب إلى مصر رغم الأحداث الجسام.
■ ■ ■
القاهرة: حين لامست أقدامى أرض المطار شعرت فجأة بسعادة غامرة. رائحة الهواء أحببتها رغم عوادم السيارات والزحام القاتل. إلا أن منظر الأضواء وألوف البشر يمشون فى الشوارع كان مبهجا. أذاب كل جليد أوروبا الذى تراكم على روحى، وبرودة المشاعر والنظام الممل والرتابة المميتة وغياب دفء البشر. وجوه الناس هنا مليئة بالشغف، وترحيب البسطاء بكل غريب، شعب ملىء بالعاطفة والدفء. قهاوى، طاولة، أغان شعبية، حفنة من ماء النيل شربتها فى قارب شراعى. كل شىء كان مليئا بالحياة هنا.
محطات! تركت عملى الذى لم يسعدنى يوما، وذهبت إلى عمل آخر. درست شيئا آخر. اشتريت ألوانا كثيرة وألواحا. اكتشفت أن لدى موهبة الرسم. قرأت. كتبت. سمعت الموسيقى. حضرت حفلات فى الأوبرا. شغفت بخان الخليلى. الجدران فيها تحكى ألف قصة. المشغولات والصناعات اليدوية القديمة. كنت شغوفة كمراهقة. سعيدة كعاشقة. عيناى تلمعان لأول مرة.
ما زال هناك شىء ينتظرنى.. أؤمن بهذا. دفتر اهتماماتى ملىء بأحلام أنوى أن أنفذها: سأتعلم العزف على الجيتار. التانغو. اللغة الفرنسية. فن الأحجار الكريمة والمجوهرات. قلائد. أساور. مشغل لتعليم الصناعات المصرية القديمة. دراسات عليا. امتحانات. قائمة ما أنوى أن أفعله لا تنتهى.
الله معى. القوى العظمى تساندنى. أنتظر الشيء الجميل وكلى أمل فى الحياة. لقد وقعت فى غرام كل شيء هنا...».