x

أيمن الجندي لورنس «الحيرة» أيمن الجندي السبت 06-02-2016 21:18


لم يكُن لورنس بالتأكيد شخصًا عاديًّا. أو مجرد ضابط لامع من ضباط المخابرات البريطانية. بل كان مزيجًا من الانبساط والاكتئاب. فلو كان فى عصرنا هذا لوصفوه بـ«القطبية الثنائية»، التى يحمل كل منا، بما فيكم أنا، قبسًا منها.

«لورنس» الضابط الإنجليزى غريب الأطوار، حماسته الشديدة التى تدفعه إلى أعمال أقل ما يُقال عنها إنها جنونية. الذى يقود جيشا من العرب لاقتحام صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، لا يدخلها إلا هالك، عرضة للعطش الشديد ونفوق الإبل، الذين لو ماتوا لهلك الجيش بأكمله! ومواجهة العواصف الرملية التى لا تمزح. كل ذلك من أجل الاستيلاء على ميناء العقبة التى لم يظن الأتراك أن مجنونًا سيهاجمها من الصحراء، لذلك اكتفوا بوضع مدافعهم تجاه البحر فى مواجهة الأساطيل الغازية. وبعد أن يتم عمله المذهل يهاجمه الاكتئاب فيطلب من قائده أن يترك العمل العسكرى ويعود مجرد إنسان عادى.

«لورنس العرب» اللقب الذى اشتهر به الضابط المخابراتى. الفيلم يحكى عن أجواء الحرب العالمية الأولى، وكيف تلاعب الإنجليز بطموحات العرب، فحرضوهم على الجيش العثمانى المسلم، بزعم أن الإنجليز لا مطامع لهم فى بلاد العرب، ثم خدعوهم بعد انتهاء الحرب فيما يُسمى «سايكس- بيكو» التى تقاسمت فيها إنجلترا وفرنسا إرث الرجل المريض التركى، ولم يتركوا للعرب إلا خذلان الخديعة. من المؤسف أن المصريين يجهلون كل شىء عن «الثورة العربية الكبرى»، فيما يعرفها إخواننا الشوام عن ظهر قلب، لأنها تاريخهم الدامى.

مشاعر متضاربة انتابتنى وأنا أشاهد الفيلم الرائع (إنتاج 1962). هل كان لورانس مجرد مخادع أم أنه كان هو نفسه ينطوى على تناقض. لقد كان يعشق الصحراء حقًّا لأنها «نظيفة». ارتدى زى العرب الذين وثقوا فيه. وعرض نفسه للهلاك ألف مرة من أجل تحقيق انتصارات لم يجرؤ أن يحلم بها رؤساؤه. ولكن لماذا؟ أهو ولاؤه للإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس؟ أم أنه جموحه الشخصى وشخصيته المعقدة العصيّة على الفهم الكامل؟

ولماذا لم نشهد- نحن العرب- زعماء من هذا الطراز الذين يجازفون بحياتهم من أجل رفعة أوطانهم؟ إسرائيل مثلًا كانت لديهم نصف دستة من الأبطال القوميين، الذين لو كان عندنا واحد فقط منهم، لأقمنا له التماثيل ولأنشدنا له الأغانى.

■ ■ ■

كان قلبى يعتصر وأنا أشاهد القبائل العربية تهاجم الجيش العثمانى المسلم الذى كان يحارب الإنجليز والفرنسيين فى هذا الوقت. تلاعب بهم لورانس فجعلهم يفجّرون القطارات ويغدرون بالجيوش المحاربة. وأسوأ من ذلك سلب الموتى. فهل كان العثمانيون مجرد محتلين يستحقون التنكيل بهم؟ وهل الاستعمار هو الاستعمار حتى لو شاركك معتقدك؟

كلها أسئلة حائرة لا أملك إجابتها. هل كان الاستعمار شرًّا كله؟ لقد أثبتت القبائل العربية أنها غير قادرة على إدارة دمشق التى غزاها لورنس بجيش عربى قبل دخول الإنجليز؟ وحتى بعد زوال الاستعمار عن أفريقيا فقد أثبتت الأيام أن المستعمر الأبيض قد تم استبداله بطغاة محليين صنعوا من المجازر، ما جعل أيام الاستعمار نعيمًا بالمقارنة بأيامهم.

الفيلم الذى يحرضك على الحيرة هو بلا شك فيلم يستحق المشاهدة. أعترف بحيرتى وعجزى عن الوصول لإجابات قاطعة. ولكننى أؤمن بـ«دولة الإنسان»، التى تعلو فوق الحدود والعصبيات، وتصبح الأرض- كل الأرض- للإنسان، أى إنسان. وأعتقد أنها ستأتى فى زمان قادم.

ولكنى سرعان ما أعود لنفسى قائلا: «لا تكُن بهذه الثقة، فلعلّها أوهام حالم!».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية