x

محمد حبيب شجاعة المحاولة محمد حبيب السبت 16-01-2016 21:11


انتقل «حسن» إلى الصف الثانى الثانوى، وكما هى العادة بمجموع يمثل النهايات الصغرى لكل المواد..عزم على أن يضع نهاية لهذه المأساة، إذ ليس من المعقول أن يظل هكذا قابعا فى الصفوف الخلفية، خاصة أنه لا ينقصه شىء من مقومات التقدم.. قرر أن ينزع عن نفسه الكسل والتراخى وأن يبدأ الفصل الدراسى بهمة وجِد، لكن كيف؟ لا يدرى.. لقد كانت اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، بالنسبة له طلاسم وألغازا.. لا يدرى لها بداية من نهاية.. يرى زملاءه الطلاب يتسابقون فى رفع أيديهم عندما يطرح المدرس سؤالا، فينظر إليهم باستغراب شديد، ويتساءل بينه وبين نفسه: ما الذى يقصده المدرس، وما الذى فهمه هؤلاء، ولماذا يرفعون أيديهم؟ عاش فترة كأنه غائب عن الدنيا.. فكر يوما أن يقتحم ميدان الإجابة، وأن يرفع يده مثلهم، لكنه استدرك قائلا: وعلى ماذا ترفع يدك؟ ولنفترض جدلا أن المدرس وقع اختياره عليك لتجيب على سؤاله، فماذا أنت فاعل؟ هل تتمتم بكلمات غير مفهومة، أم تقف صامتا جامدا كالصنم، أم تنتظر إجابة يمدك بها أحدهم؟ ولماذا تجعل من نفسك أضحوكة ومادة للسخرية بين الزملاء؟ ظل يفكر طويلا، ثم قرر فى نهاية الأمر أن يرفع يده عند أول سؤال يلقى عليهم، وليكن بعد ذلك ما يكون.. فى اليوم التالى وبعد أن شرح المدرس فقرة من القصة المقررة عليهم آنذاك، توقف قليلا ثم ألقى سؤالا.. تشجع «حسن» وسارع برفع يده، لكن يبدو أن السؤال كان صعبا، بدليل أن أحدا من الزملاء النبهاء لم يرفع يده.. إن الجاهل لا يفهم ما إذا كان السؤال صعبا أم سهلا.. لذا، كان يعجب من هؤلاء الذى يستحضرون معهم «برشاما» وهم يلجون إلى لجان الامتحانات.. أدرك «حسن» صعوبة الموقف، فقرر على الفور أن يسحب يده بهدوء.. غير أن المدرس رآه.. كانت فرصة ذهبية يجب ألا تضيع.. أسرع فأشار إلى «حسن» أن يقف ويجيب.. وقف «حسن» حائرا، تائها، شاردا، مرتبكا لا يدرى ماذا يقول.. كانت لحظات حرجة لم يمر بمثلها من قبل فى حياته، لدرجة أن جسده كله، من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، غشيه عرق غزير.. لكن المدرس النابه تصرف على نحو عبقرى فذ.. قال بحسم: أنت تريد أن تقول كذا وكذا؟ فيغمغم «حسن» قائلا: نعم..نعم.. ويستطرد المدرس، فيقول: وكنت تريد أن تقول كيت وكيت.. فيرد «حسن» بالإيجاب.. وهكذا أجاب المدرس على السؤال الصعب.. ثم التفت إلى الزملاء وقال: حيوا «حسن» وصفِّقوا له، ففعلوا ما طلب منهم.. كان المدرس يدعى حسين فوزى، وهى أول سنة يقوم فيها بالتدريس بعد تخرجه من كلية الآداب.. لكن مظهره، وثقته بنفسه، وطريقة أدائه جعلته يبدو وكأنه ذو خبرة طويلة وعميقة فى التدريس، علاوة على الكفاءة المذهلة فى الوصول إلى قلوب الطلاب..

وحين دق الجرس يعلن انتهاء الحصة، وهمّ المدرس «حسين» بمغادرة الفصل نادى على «حسن»، ولما اقترب الأخير منه وضع يده على كتفه وقال: يا «حسن» أنا معجب بشجاعتك.. صمت قليلا، ثم قال: يا «حسن».. إن اللغة عبارة عن كلمات، والكلمات تكتسب معانيها داخل السياق الموجودة فيه، وذلك طبقا لقواعد متفق عليها.. البداية إذن فى الكلمات.. وإذا تكوّن لديك رصيد جيد منها، فمعنى هذا أنك بدأت سلوك الطريق الصحيح.. استمع «حسن» بإنصات واهتمام شديدين لما يقوله مدرسه النابه، وهذه الثقة التى وضعها فيه.. لقد تعرف المدرس على مفتاح شخصية «حسن»، وهو الضرب على وتر الشجاعة.. لا تخف أن تخطئ، فخير لك أن تخطئ أثناء المحاولة، من ألا تحاول مطلقا.. القضية مسألة وقت وجهد وإرادة وعزم، وسوف تجد الأمر سهلا للغاية، بأكثر مما تتصور.. سوف تجد اللغة سلسة وطيعة.. إن كثيرا من الناس أضاعوا أنفسم وحرموا أوطانهم من عباقرة ونابهين، وعاشوا خارج الزمن.. والسبب هو أنه لم تكن لديهم شجاعة المحاولة.. يقال فى أمثالنا: «وفاز باللذة الجسور».. ويقال أيضا: «وفاز باللذات كل مجازف».. إنه ليس أضيع للعبقرية من التردد والإحجام.. فى تلك اللحظة، شعر «حسن» بأنه إنسان آخر غير الذى يعرفه.. كأنه ولد من جديد.. ذهب إلى بيته وقد عقد النية أن يكون عند حسن ظن أستاذه به.. رتب على نفسه أن يحفظ ١٠٠ كلمة فى اليوم، وقد تمّ له ما أراد.. فى اليوم الثانى بدا «حسن» مقبلا على درس اللغة، فقد استطاع أن يفهم بعض ما يقال.. إن المسألة ليست مستحيلة ولا صعبة، وما عليه إلا أن يستمر فى خطته.. حفظ فى تلك الليلة أكثر من مئتى كلمة.. فى اليوم الثالث كان أكثر إقبالا.. وكان المدرس «حسين» يرقبه، ويحفزه، ويشجعه.. وفى خلال أسبوعين صار «حسن» شخصا مختلفا، فهو يفهم جيدا ما يقال، وكثيرا ما كان يشارك فى الإجابة.. ضبط القواعد كان يمثل بالنسبة له مشكلة.. صارح أستاذه بذلك.. فأمده بكتيب صغير يضم مجموعة من القواعد، لكن بأسلوب سهل خالٍ من أى تعقيدات.. انطلق «حسن» يغرف من معين اللغة.. وجد عالمًا من السحر والجمال والجاذبية.. لقد أزيلت من أمامه كل الحواجز والمعوقات.. أصبحت اللغة محبوبته التى لا يستطيع فراقها.. لقد أحبها، فأعطته سرها وقلبها.. أدرك يومها حقيقة ما يقال: «إن الناس أعداء ما جهلوا».. وفى أول امتحان عقد، لم يجد فيه صعوبة تذكر.. كانت إجاباته موفقة ومسددة.. وجاء المدرس فى اليوم التالى حاملا معه أوراق الطلاب بعد تصحيحها.. لقد حصل «حسن» على درجة قريبة من النهائية.. كانت سعادته لا تقدر، فهاهو أخيرا ينضم إلى كتيبة المتفوقين فى اللغة الإنجليزية.. ألا ما أروع النجاح، خاصة إذا جاء بعد فشل.. ولأن النجاح يغرى بمزيد من النجاح، ويفتح أمام الإنسان أبوابا رحيبة من الأمل، فقد أغراه ذلك أن يقتحم معاقل المواد الأخرى؛ اللغة العربية، واللغة الفرنسية، والتاريخ، والجغرافيا، والرياضيات.. صحيح أنه بدا متأخرا بعض الشىء، لكنه وجد الطريق مفتوحا أمامه.. قديما قالوا: «أن تأتى متأخرا، خير من أ|لا تأتى مطلقا».. لقد كانت اللغة الإنجليزية بالنسبة له قلعة مجهولة، تقبع على ربوة عالية، مسكونة بالأشباح، والطريق إليها شديد الوعورة، لكنها تحولت إلى حديقة غنَّاء مليئة بالورود والرياحين، مسكونة بالعصافير والبلابل، والطريق إليها سهل ومعبّد.. بدا «حسن» ينظم وقته بين المواد المختلفة، وبينها من جانب وبين ممارسة الرياضة التى يحبها ويعشقها من جانب آخر.. وجاءت النتيجة أفضل كثيرا من ذى قبل.. وهاهو الآن يستعيد ثقته بنفسه، وأنه قادر على تحقيق ما كان مستحيلًا..

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية