فى الأسبوع الثانى من شهر ديسمبر الحالى، نظمت كندا احتفالية عشية إصدار النسخة النهائية من تقرير لجنة «الحقيقة والمصالحة بخصوص المدارس الداخلية للهنود»، أى السكان الأصليين للبلاد. وهى المدارس التى لم يتم إغلاقها إلا فى تسعينات القرن العشرين، بعد أن ظلت لما يزيد على قرن كامل تستقبل أطفال السكان الأصليين الذين تنتزعهم الحكومة بالقوة من أسرهم، وتودعهم تلك المدارس فى محاولة للقضاء على ثقافتهم الأصلية ولغاتهم. وقد أثبت تقرير اللجنة أن آلاف الأطفال قضوا فى تلك المدارس بينما لم ينج الآخرون من الاعتداءات الوحشية عليهم بما فى ذلك الاغتصاب والضرب وغيرها من صنوف الإيلام التى تركت جروحا صحية ونفسية عميقة على الذين خرجوا من تلك المدارس أحياء. وقد وصف التقرير ما جرى بـ«الإبادة الثقافية» التى كان هدفها «القضاء على تلك الشعوب الأصلية ككيانات اجتماعية وثقافية وقانونية متميزة». وأوضح التقرير العلاقة بين ما تعرض له الأطفال فى تلك المدارس والأمراض الاجتماعية التى تعانى منها مجتمعات الشعوب الأصليين حتى اليوم. واللجنة التى أصدرت التقرير كانت قد تشكلت كجزء من تسوية بين الحكومة الكندية والناجين من تلك المدارس، واستغرق عملها ستة أعوام ونصف العام، وأصدرت مسودة التقرير فى يونيو الماضى حين كان حزب المحافظين فى السلطة. حينئذ، حضر رئيس الوزراء السابق ستيفن هاربر الاحتفال للإعلان عن مسودة التقرير ولكنه لم ينطق بكلمة واحدة طوال المناسبة، رغم أنه كان قد اعتذر لأولئك الناجين عام 2008. وفى شهر يونيو ذاته حين أصدرت السلطات الكندية تقريرا يكشف عن أن نساء السكان الأصليين معرضات للقتل والاختفاء بنسب أعلى بكثير من غيرهن من النساء، وطالب ممثلوهم بفتح تحقيق فى الأمر، رفض ستيفن هاربر وقال إن القضية «ليست على أولويات» حكومته، رغم أن أغلبية ساحقة من الكنديين أيدت فتح التحقيق وتدعم احترام حقوق السكان الأصليين.
لكن ما هى إلا شهور، وبدأت الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر الماضى، وهى الانتخابات التى هزم فيها حزب هاربر وفاز الحزب الليبرالى فتولى زعيمه جاستن ترودو رئاسة الوزراء. وقد لا يعلم الكثيرون أن أصوات السكان الأصليين أسهمت فى حسم الفوز لحزب ترودو، بعد أن كان قد تعهد فى حملته الانتخابية بالاهتمام بقضاياهم وبإنفاق ما يزيد على 2 مليار دولار فى إصلاح التعليم فى المناطق التى يعيشون فيها. وقد حضر ترودو الاحتفال بالإعلان عن إصدار النسخة النهائية لتقرير اللجنة واستمع مثله مثل الحضور لكلمات القاضى رئيس اللجنة. وقد اختنق صوت ترودو بالبكاء وهو يعلن للجمع من الناجين من تلك المدارس أن «الهدف واضح، وهو أن نرفع عن كاهلكم وكاهل أسركم ومجتمعكم هذا العبء... (هدفنا) هو الاعتراف بمسؤولياتنا وأخطائنا، كحكومة وكأمة». وقد قوبلت كلمات ترودو بعاصفة من التصفيق من جانب ضحايا ذلك الجرم التاريخى. أما القاضى رئيس اللجنة التى أصدرت التقرير، ويدعى موريى سينكلير، وهو من أصول تعود للسكان الأصليين، فقال إن إحقاق العدل «قد يستغرق أعواما وربما أجيالا. لكن من المهم للكنديين أن يبدأوا من نقطة ما، ويصلوا لمصالحة تعيش إلى ما هو أبعد من يومنا هذا».
قبل أن أقرأ عن ذلك الاحتفاء بأيام كنت أقرأ خلاصة ما توصلت له باحثة تدرس «المعارض» التى كان يجلب إليها السكان الأصليون من أنحاء الأمريكتين «لعرضهم» فيها كالمتاع، من أجل «الفرجة والتسلية» للبيض الأوروبيين الذين استوطنوا أمريكا الشمالية، فأدركت مغزى ما قاله القاضى سينكلير.