x

عبد الرحيم كمال قضية ازدراء الفنان عبد الرحيم كمال الأربعاء 13-01-2016 21:27


تتعدد المصادر ويبقى الفعل واحدا، وهو أن يزدرى الإنسان أخاه الإنسان، مع اختلاف درجة وعى وثقافة ذلك المزدرِى لأخيه، فتجد صحفيا لبنانيا يُدعى حسن صبرا يهاجم فيروز ويتهمها بالعمالة والخيانة والبخل، وبعده يأتى أحد المنتسبين لاسم عائلة الرحبانى، فى أحد برامج المسابقات، يدَّعى أنه لا يتذكر هذا المطرب المغمور المدعو عبدالحليم حافظ، على الرغم من أن «عبدالحليم» أشهر من مناطق عريقة فى بلاده، ويختتم العزف العجيب بمهاجمة الشاعر المصرى عبدالمنعم رمضان لـ«أم كلثوم»، مستعيرا نفس الجملة التى أطلقتها عليها- ذات يوم- إحدى الصحف الإسرائيلية بأنها قطة تموء وسط حشاشين.. بالتأكيد الفنانون ليسوا معصومين وليست لهم قداسة تمنع أحدا من الهجوم عليهم، لكنها- فكرة الازدراء- التى صارت تكييفا قانونيا الآن لحرمان شخص من حريته، إذا خالف أحد فى رأيه الجمهور، ولا يجوز بالفعل أن يُحاكَم شخص طبيعى بتهمة الازدراء بالطبع..

لكن يجوز أيضا أن يُحاكَم فنيا وأخلاقيا بحجم وقيمة تأثير ذلك الفنان وجمهوره، فبالتأكيد تأثير فيروز وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وشهرتهم وجماهيريتهم والدور الذى لعبوه أحياء فيمن حولهم أكبر وأقوى وأخطر من تأثير الثلاثى الذى هاجمهم، ولست بالطبع محاميا عن الثلاثة، وأرى أيضا أنهم ليسوا فوق النقد، لكنها فكرة الدفاع عن الخلط فى المفاهيم، فكيف لك أن تحكم بفكرك على أذواق الآخرين؟ إنها فكرة تحمل الكثير من الداعشية والإرهاب أيضا، لقد أحب الناس فيروز وأم كلثوم و«حليم» لأسباب لا تخضع للمنطق وحده والتحليل، لكنها أصوات منحها الله سره، فأحبها الناس.. لم يقتلوا أحدا ولم يُجبروا أحدا على سماعهم، فقط فتحوا أفواههم وغنوا للناس، فأقبل عليهم مَن أقبل وأعرض عنهم مَن أعرض، ومرت السنوات الطويلة، والموت فرَّاز، والزمن وزَّان أيضا، فزاد وجودهم وحضورهم ولم تنطمس أصواتهم ولا جماهيريتهم.. لك أن تعلن كما تشاء أن صوت فيروز لا يُطربك، أو أن السيدة أم كلثوم لا يأتى صوتها على هواك، أو أن عبدالحليم كان صوتا لا يؤثر فى وجدانك، لكن أن يأخذك هواك إلى جعل سيدة قطة تموء، والأخرى جاسوسة تبيع بلادها، بينما الثالث متمارض كذاب وصوته صوت لرجل نكرة لا تتذكره، فهى أحكام غير فنية على فنانين.. أحكام تزدرى الفنان وجمهوره ومجهوده الذى بذله من أجل إسعاد الناس.. هو ازدراء لا يستوجب عقوبة جنائية بالتأكيد، لكنه يستوجب غصة وندما على أولئك الأحياء الذين لم يقدموا فى حياتهم شيئا يُذكر إلى أقرانهم من الأحياء، وربما بعد انتقالهم إلى الدار الأخرى لن يتذكر لهم الأحياء شيئا إلا أنهم أهانوا يوما تلك الأصوات الثلاثة

.. النجاح الطاغى والجماهيرى لصوت معين ليس مُسوِّغا للهجوم عليه إلا لو كان ذلك النوع نفسه من النجاح والجماهيرية مرتبطا بانحطاط وانحدار القيم الفنية لذلك العصر أو غيره،

ولا يجوز أن يكون المبرر فقط للازدراء أن المزدرِى للصوت وصاحبه يزدريه بشكل شخصى، عقابا على النجاح والجماهيرية التى حُرم منها هو، فيحاول أن يقضم من فمه قطعة من جماهيرية الآخرين ويلوكها جملا رنانة مُهينة، عله يعوض بعد البلع إحساسا ما بالنقص الجماهيرى، فالقدح فى إيقاع وغنائية أشعار أمل دنقل مثلا لن يضيف لموت قصيدة أحد آخر حياة ما جديدة، لكنه الوهم والصراع الداخلى بين تجربة الشخص وتجارب الآخرين، اللذان يدفعان صاحب التأثير الأقل أحيانا للتطاول على صاحب التأثير الأكبر.. بالتأكيد يستطيع أى عامى لا يجيد حتى القراءة والكتابة أن يَصِم شكسبير بالضعف الفنى، أو أن يقول إن ميسى لا يُجيد لعب الكرة، وإن نجيب محفوظ يكتب كتابة طفولية، ويوسف شاهين ذاتيا غير مفهوم وركيك أحيانا فى أفكاره، وإن ديستوفيسكى له مقاطع كاملة من الهذيان خارج السياق، و«كافكا» ناقص غير مكتمل، لكنه سيظل قولاً لعامى عابر لا يُعتد بكلامه، لأننا فى النهاية لا نعلم عن حضارة بلاد بأكملها سوى أسماء هؤلاء وآخرين من الذين اكتملت تجاربهم وقدموا فنونا حازت القبول، فليست كل جماهيرية تعكس بالضرورة انحدارا فنيا أو ذوقا عموميا رخيصا دون المستوى، خاصة فى العصور السابقة، حين ارتبطت الفنون غالبا بالفكر قبل أن تسلم الفنون رايتها الآن لما هو عمومى ورخيص وشعبى بالفعل على كل المستويات، بداية من أصحاب الفنون أنفسهم وانتهاء بأصحاب التجارب المبتورة، والذين قرروا أن يكملوا تجاربهم بازدراء الآخرين من الفنانين الذين صاروا جزءا حقيقيا من أوطانهم.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية