x

حسن حنفي الثقافة أم الوطن أم الثقافة الوطنية؟ حسن حنفي الأربعاء 13-01-2016 21:26


كثر الحديث عن الثقافة وتنميتها، وإصلاح المؤسسات الثقافية وتحريرها من الفساد وعبء موظفيها، وضرورة زيادة ميزانية صندوق التنمية الثقافية حتى يمكن تنشيط المسارح والمتاحف ودور السينما والمؤتمرات الإقليمية والدولية. وتوالى الوزراء والكل يجمع على نفس الشىء. والإعلام يصفق للجميع. وفى نفس الوقت تشتد أزمة الوطن الثقافية والسياسية. وتتعدد المداخل لها والحلول. ويظل الأمر على ما هو عليه. ويشتد الصراع بين المثقفين والسياسيين. كل فريق يضع المسؤولية على الفريق الآخر. ينقد السياسيون انعزال الثقافة وتكرار أعلامها أمواتاً وأحياء ومفاهيمها مثل التنوير والإصلاح والنهضة بل والثورة، ورجوعها إلى الوراء دائماً منذ الطهطاوى. وكثر المنقول المترجم باعتباره ممثلاً للثقافة الحديثة. ومن خلاله تمتد الثقافة وتنتشر من حدود وطنية إلى أخرى. وتكون كالمرآة تعكس تخلف الثقافة الحاضرة. وتكشف عقدة نقص المثقفين أمام الثقافة الجديدة. وتطغى عقدة النقص لدى المثقفين تجاه ثقافة الآخر، وعقدة العظمة لدى الآخر تجاه المثقفين الذين يقومون باستهلاك ما يبدعه الآخر، ويتعلمون الحداثة على يديه. وينقدون ثقافة القدماء. فقد انقضى عصرها. ينشرون لغتها وفكرها ومضمونها. يحاولون نقل ثقافة العصر كلها من مرحلة تاريخية إلى أخرى بانتزاعها من تاريخها خارج مسارها. فتنقطع عن جذورها. ولا تنتج ثماراً لها. ويحدث رد الفعل على ذلك باشتداد الحركة السلفية دفاعاً عن نفسها. فالثقافة هويتها. ويصل الأمر إلى حد الصراع واتهام السلفيين الحدثيين بالتكفيريين، واتهام الحدثيين السلفيين بالتخوينيين الذين ينكرون حدود الدولة الوطنية لصالح وهم الخلافة. ويحتار السياسيون بين الفريقين واللغتين والموقفين. ويعز عليهم الحوار الوطنى. فالكل راغب فى السلطة بمفرده. فتنشق الثقافة الوطنية. ويسير الوطن على ساق واحدة فيكون أعرج. ويرى العالم بعين واحدة فيكون أعور. ويتقدم الانتهازيون المشهد الذين يعملون لصالحهم متعاونين مع رجال الأعمال تحت شعار المصلحة يتقدمهم الخطباء والدعاة من كل فريق. يسيطرون على عواطف العامة. ويحمونهم من الأيديولوجيين، يميناً ويساراً. وفى كل الحالات تضيع الثقافة عند الفريقين الأولين كما يضيع الوطن باسم المصلحة عند الفريق الثالث.

والسؤال هو: ألا توجد إمكانية لإقامة ثقافة وطنية تلم الشمل، وتجمع بين المثقفين والسياسيين؟ تعنى الثقافة الوطنية، ارتباط الثقافة بكافة اتجاهاتها بالمصلحة الوطنية فى لحظة تاريخية محددة هو الحاضر، وليس الماضى كما يريد السلفيون أو المستقبل كما يريد الحدثيون. والحاضر هو الوعى بالزمان والمكان والمجتمع أى الوعى بالتاريخ ومساره. هو إدراك الواقع وهو يتحرك فى لحظة تاريخية محددة لتنظيرها ومعرفة الثقافة المتحكمة فيها دون نظريات مسبقة منقولة من الماضى كما يفعل السلفيون أو المستقبل كما يحاول العلمانيون. هى ليست ثقافة سياسية جاهزة فى شكل أيديولوجى محدد مقارنة بالأيديولوجيات الجاهزة الثابتة التى تريد فرض نفسها على الواقع المتحرك. هى اجتهاد أصيل يجمع بين تراث القدماء واجتهاد المحدثين والتنظير المباشر للواقع. فليس الحاضر أقل إبداعاً من القدماء أو المحدثين.

واللحظة الحاضرة التى تنبثق منها الثقافة الوطنية تتكون من سبعة مكونات: أولاً، ثقافة تحرير الأرض، واستكمال حركة التحرر الوطنى فى فلسطين بعد أن تمت فى الهند وجنوب أفريقيا وباقى أجزاء الوطن العربى ومنه مصر. لذلك يعتبر موضوع الأرض موضوعاً أول للثقافة بمعناها الواسع بحيث تشمل الأدب والفن والعلوم الإنسانية. فإذا كان الدين ركيزة الثقافة تكون الأرض محوراً للدين. فالله إله السماوات والأرض، والرب رب السماوات والأرض، وهو فى السماء إله وفى الأرض إله. فالله والأرض واجهتان لعملة واحدة. هكذا برر الصهاينة أرض المعاد بإقامة لاهوت الأرض. وأقام المسيحيون فى أمريكا اللاتينية لاهوت التحرير. ونحن مازال فكرنا الدينى يدور حول نظرية الذات والصفات والأفعال دفاعاً عن التنزيه ضد التشبيه، وليس منها الأرض لأننا كنا منتصرين فاتحين. ونحن الآن منكسرون منهزمون. لقد ظهر مفهوم الأرض فى الأدب، رواية «الأرض»، وفى المسرح، فريق الأرض، ولكن الفكر الدينى مازال غائماً خائفاً من التشبيه.

ثانياً، تحرير المواطن من كل قيد ونظام ونسق استبدادى. فتحرير الأرض لا يكتمل إلا بحرية من يعيش عليها. ولا فرق بين الحرية والتحرر. فالتحرر طريق الحرية. والحرية غاية التحرر. وقد كانت الحرية باستمرار أحد المكونات الرئيسية فى كل الثورات مثل الثورة الفرنسية 1798، وكل حركات التحرر فى العالم الثالث حتى الثورة العربية الأخيرة 2011. وقد سطَّر الكواكبى ذلك فى «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» بالرغم من اعتماده على المنقول من الفكر الإيطالى.

ثالثاً، العدالة الاجتماعية. وقد كانت مطلباً دائماً للنهضة العربية بصرف النظر عن أسمائها: الاشتراكية العربية، الاشتراكية الإسلامية، المساواة، تذويب الفوارق بين الطبقات، إعادة توزيع الدخل، وضع حد أدنى وحد أعلى للأجور، حقوق العمال، الإصلاح الزراعى، مجانية التعليم. فأغنى أغنياء العالم منا، وأفقر فقراء العالم فينا. وفى تراثنا القديم، أصولاً وفروعاً، ما يكفى كمصادر نظرية للعدالة الاجتماعية، وفى التراث الغربى للاشتراكية.

رابعاً، وحدة الأمة، سواء سميت الوحدة الوطنية أو الوحدة القومية أو الوحدة الإسلامية أو وحدة العالم الثالث، ضد عناصر التفتيت والتجزئة الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية والقبلية. وفى التراث القديم ما يكفى لتأصيل الوحدة فى الله الواحد، وفى الأمة الواحدة انعكاساً لوحدة الألوهية. وهو ما لا ينفى التعددية، كما نص على ذلك ميثاق المدينة. وهى وحدات متداخلة لا تضارب بينها. وفى التراث الغربى فلسفات للوحدة على أساسها قامت الوحدة الألمانية وأخيراً الاتحاد الأوروبى بعد نهاية عصر الأيديولوجيات وبداية مخططات التفتيت والتجزئة فى الوطن العربى حتى تبقى إسرائيل هى الدولة القومية الواحدة، قلب المنطقة، دون حرب أو بواسطة الحرب الناعمة.

خامساً، التنمية المستقلة. ففى الوطن العربى مقوماتها من مياه ونفط وسواعد وعقول واستثمارات دونما حاجة إلى الاعتماد على المصادر الخارجية كالدول الكبرى. ومن ثم، كانت مشاكل الفقر والبطالة والتصحر مشاكل زائفة لسوء خطط التنمية. وما أكثر الحديث عن التنمية فى العقود الماضية، خططاً وبنوكاً ومشاريع، والفقير يزداد فقراً، والغنى يزداد غنى. ويُخشى من التصحر وندرة المياه وفتح الأسواق لإنتاج الغير مثل الصين وقلة التصدير، وكثرة الاستهلاك، وقلة الادخار، وهبوط الطموح. وهو الطموح الذى كان وراء فتح البلدان، وتكوّن أوسع الإمبراطوريات انتشاراً فى أقل وقت ممكن، من طنجة غرباً إلى الصين شرقاً، ومن تركيا شمالاً إلى جنوب أفريقيا جنوباً، وهى التى نعيش على آثارها حتى الآن.

سادساً، الدفاع عن الهوية، الوطنية أو العربية أو الإسلامية، دون الضياع فى التغريب، أى تقليد الغرب واعتباره مركز الإبداع الدائم ونحن فى الأطراف. ما علينا إلا الاستهلاك المستمر عن طريق الترجمة. فقد انتشر تقليد الآخر على مستوى اللغة والعمارة، والأخطر على مستوى الفكر والإبداع. وخلطنا بين المعلومات والعلم، بين النقل والإبداع. وساعد على ذلك أدوات الاتصال الحديثة التى سهلت نقل المعلومات وتخزينها.

سابعاً، حشد الأمة حول مشروع نهضتها بدلاً من الهجرة خارج الأوطان حتى ولو كلف ذلك الغرق فى البحار أو الهلاك فى الصحراء أو الاعتقال فى السجون. لقد أصبحت الأوطان طاردة وليست جاذبة فى مقابل الكيان الصهيونى الذى يحاول أن يكون جاذباً ليهود العالم إلى أرض المعاد كما تحكى الأسطورة الصهيونية. وترفع التأشيرات عبر الحدود ويسمح للغربيين بالدخول إلى أوطان بأقل تكلفة ممكنة فى المال والجهد والوقت واحترام الذات.

يجب أن تدخل الجامعات والجمعيات العلمية والأدبية وأجهزة الإعلام ومناهج التربية والتعليم فى هذا المشروع النهضوى لتأسيس الثقافة الوطنية والذى يمكن أن يقضى على انعزال الثقافة والخطابة للوطن.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية