أثير موضوع «الميثاق الثقافى العربى» أكثر من مرة فى اجتماعات القمة العربية وفى دهاليز الأمانة العامة للجامعة العربية، وفى وقت من الأوقات تأسس عندنا فى القاهرة «صالون ثقافى عربى»، ضم نخبة من خيرة المثقفين العرب من أغلب أقطار العروبة من مغربها إلى مشرقها، ولكن رغم ذلك كله، فإن شيئاً واضحاً لم يأخذ بعد طريقه إلى التفعيل الجدى.
وأخيراً كتب الصديق الدكتور مصطفى الفقى، أحد مؤسسى الصالون الثقافى العربى، مقالاً ضافياً حول هذا الموضوع وضرورة تفعيله وهآنذا أنضم إليه بدورى.
ومن محاسن الصدف، أننى وجدت فى العدد الأخير من مجلة «منتدى الفكر العربى» الصادر فى يناير 2015 دراسة عميقة حول هذا الموضوع: موضوع الميثاق الثقافى العربى.
ومنتدى الفكر العربى تأسس منذ عدة عقود برعاية صاحب السمو الملكى الأمير الحسن بن طلال، وتكرّم سموه بدعوتى لكى أكون أول أمين عام للمنتدى ولكنى اعتذرت آنذاك لارتباطاتى فى القاهرة ولكن صلتى ظلت وثيقة بكل ما يصدر عن المنتدى، وذلك نتيجة لإيمانى بقضية العروبة ولانتمائى العربى الذى لم تغيره الأيام ولم تزده إلا رسوخاً.
فى العدد السنوى الممتاز - 261 - من مجلة المنتدى دراسة شاملة أعدها الأستاذ الدكتور صلاح جرار، أستاذ الأدب العربى فى الجامعة الأردنية وعضو المنتدى ووزير الثقافة السابق للأردن، وهذه الدراسة أمامى الآن وسوف أعتمد عليها، فى هذا المقال، نظراً لأنها دراسة علمية وعملية بامتياز.
وفى بداية بحثه، يقول الدكتور جرار «لا مناص أمام العرب من اعتماد الثقافة» بمعناها الشامل، بداية الحركة والانطلاق فى أى مشروع لترميم الواقع العربى أو إصلاحه أو إعادة بنائه.
ويستطرد سيادته قائلاً إن الإجماع على ضرورة ميثاق ثقافى عربى سيكون فى حال ظهوره مفتاح النجاح لسائر المواثيق العربية اللاحقة.
وفى تقديرى أن هذا كلام علمى وسليم.
فأظن أننى واحد من الذين قالوا ومازالوا يقولون إن «العروبة حقيقة» وليست مجرد كلام مرسل يقال.
وإن هذه اللغة العربية الواحدة - وإن اختلفت اللهجات - هى الجدار الأساسى الذى تستند إليه هذه الحقيقة.
وإن هذه اللغة الواحدة هى بكل مكوناتها من ثقافة وفنون ومسرح تمثل القوة الناعمة لهذه الأمة.
إذا كان النفط وكانت مساحة الأرض الشاسعة القابلة للزراعة، سواء فى السودان أو فى غيره، تمثل القوة الصلبة لهذه الأمة، فإن قوتها الناعمة تتمثل من غير شك فى ثقافتها الواحدة بكل مشتملاتها ومفرداتها.
والحقيقة أن هذا العدد المتميز من مجلة «منتدى الفكر العربى» أشار إلى كثير من السوابق التى أكدت ضرورة الاهتمام بهذا الجانب من القوة العربية الناعمة وأضاف إليها بدوره جوانب أخرى.
ويرى الدكتور صلاح جرار أنه من العناصر الأساسية لأى ميثاق ثقافى عربى احترام التنوع الثقافى داخل المجتمع العربى وداخل كل مجتمع من مجتمعات الدولة العربية على حدة.
ويرى الدكتور صلاح - وأظنه على حق - أنه مما ينبغى لأى مشروع للميثاق الثقافى العربى ضرورة المحافظة على تراث الأمة العربية المادى وغير المادى.
وأن من أهم ما يتبقى الاهتمام به فى هذا الجانب تحريم المساس بالآثار أو تدميرها أو الاعتداء عليها، ولعل الكاتب الفاضل يشير إلى ما حدث من تدمير لآثار الحضارة العراقية، سواء فى فترة الغزو الأمريكى للعراق أو مؤخراً من الداعشيين وإخوتهم.
ويذهب الباحث إلى ضرورة دعم المؤسسات الثقافية لجامعة الدول العربية، وتفعيل الأدوات الثقافية والإعلاء من شأن الثقافة وتفعيل دورها فى الحياة العربية والاعتراف بهذا الدور، ولا بد كذلك أن يشتمل تعريف المثقف على كل من يتبنى مواقف تسهم فى تقدم الأمة ونهضتها وحقن دماء أبنائها والمحافظة على كرامتهم ومصالحهم.
ويختم الأستاذ الدكتور صلاح جرار بحثه القيم بالتأكيد على أن الميثاق الثقافى العربى الذى نصبو إليه هو الذى ينحاز إلى الدم العربى ويتبنى الدعوة إلى حقنه وتحريمه، وينحاز إلى الكرامة العربية ويدعو إلى صيانتها من كل مكروه، وينحاز إلى التراث العربى المادى والمعنوى ويسعى إلى رعايته والحفاظ عليه، وينحاز إلى العقل ولا يتسامح فى تهميش دوره، وينحاز إلى الحلم العربى بالوحدة دون أن يتخلى عنه تحت أى ذريعة أو فى أى ظرف، وينحاز إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ويدعو إلى مراعاتها بكل الوسائل المتاحة، وينحاز إلى التطور والنهضة ومواكبة الحضارة العصرية بكل أبعادها المادية والمعنوية.
ولا أريد أن أختم مقالى هذا الذى اعتمدت فيه اعتماداً كاملاً على البحث العميق الذى أعده الزميل الفاضل دون أن أثنى ثناءً عميقاً على البحث وصاحب البحث وعلى «منتدى الفكر العربى» ومجلته.
أبقى الله المنتدى وأبقى كل من يعمل لصالح هذه الأمة التى تستحق أفضل بكثير مما هى فيه.
حفظ الله أمة العرب.. وحقق لهذه الأمة حلمها فى بناء ميثاق ثقافى عربى.
والله المستعان.