x

أيمن الجندي نزوة ثقافية أيمن الجندي الجمعة 01-01-2016 21:07


مثل «بطوط» أتحمس كثيرا ثم يهبط حماسى. كثيرة هى أوجه التشابه بينى وبين «بطوط» فى كثرة النزوات والمزاج المتأرجح. فى لحظة يبدو لى العالم رائعا إلى حد لا يصدق. وأقرر أن أفعل أشياء عظيمة. ثم ينتهى الأمر غالبا بكارثة، فأسير منطفئ العينين متدلى الكتفين، شاعرا بالإحباط الشديد.

هذه المرة كانت النزوة ثقافية. تذكرت أننى لم أذهب قط لأى متحف فنى، وطفتْ على السطح معلومة اختزنتها عن محمد محمود باشا الذى تبرع لمصر بثروة فنية، وظللت أردد لنفسى فى حسرة:

«متحف محمد محمود على مسافة ساعة من طنطا إلى القاهرة؟ ولوحة جوجان الشهيرة التى تُقدر بمئات الملايين من الدولارات هناك. وأنا- يالى من خنزير منحط!- لم أكلف نفسى بالذهاب إليها!

بصراحة أمثالى يجب أن يُجلدوا في مكان عام. أمثالى لا يستحقون الحياة أصلا».

هكذا ظللت أردد لنفسى. وهكذا تلفت حولى باحثا عن ضحية يذهب بى إلى المتحف. فكرت فى صديقى أيمن! ولكنه صار يفر منى فراره من الأسد.

فكرت فى صديقى حازم، ولكنه أفلت من براثنى إلى الخليج ليجمع المال!

فكرت فى صديقى الكاتب الشهير د.أحمد خالد ولكنى كنت أعرف رأيه مسبقا! ولطالما قال لى إننى لا أملك بتاتا أى تذوق بصرى. وبالفعل أنا من النوع الذى يصعب عليه تذكر الوجوه! لدرجة أننى كنت أجعله يرسم لى وجوه الأساتذة قبل امتحانات الشفوى!

وهكذا لم أجد أمامى سوى رجل الأمنيات خالى «طارق نصار». الإنسان الوحيد الذى ظل يحتمل نزواتى ولم يخذلنى.

حدثته- فى خطورة- عن الجريمة الثقافية التى نرتكبها بعدم الذهاب لمتحف محمد محمود، واستمع لى فى صمت وقد أدرك أنها نزوة جديدة.

الحقيقة ما أكثر نزواتى معه. مرة ظللت أحدثه لأربع ساعات متتالية عن أننى أضعت حياتى حينما لم أدرس الفيزياء. وأن الحضارة الحديثة تدين بثمارها إلى الفهم العميق لقوانين المادة. ونسيت أنه مهندس عبقرى، ورحت ألومه وألوم نفسى لأننا لم نكرس حياتنا للفيزياء.

والرجل لم يقصر معى بصراحة. فى الزيارة التالية أحضر لى عشرين كتابا فى الفيزياء، وخجلت أن أقول له إننى نسيت الأمر برمته. وظلت هذه الكتب موجودة عندى، كلما فتحتها وجدت طلاسم، حتى أعدت ما تبقى منها بعد خمسة أعوام دون أن تُفتح.

ذات صباح شتائى مشمس استقللت القطار إلى القاهرة وكلى انفعال، حيث وجدت خالى فى استقبالى بقامته الطويلة، ناظرا نحوى فى حذر.

وأقلنى فى سيارته إلى متحف محمد محمود بالجيزة، وطيلة الطريق ألومه بعنف لأنه لم يذهب إليه. وحين أخبرنى بصوت هامس أنه ذهب بالفعل، فإن ذلك لم يجعلنى أسامحه!

دخلت المتحف. فوجئت بالجو شبه المنزلى والموظفات اللواتى لا يبدو عليهن أى حماس ثقافى. ومضيت توا إلى لوحة جوجان، ورحت أرنو إليها متوقعا أن أنبهر.

للأسف لم يحدث أى شىء مطلقا. كان خالى فى هذه الأثناء ينظر نحوى فى حذر.

قلت لخالى: «بصراحة هذه اللوحة لا تساوى (نكلة) فى نظرى. ولا أشعر بفارق بينها وبين اللوحات التى يرسمها ويبروزها- على الماشى- الفنان الذى فتح محلا أمام بيت صديقى رائف، ويبيع الواحدة بعشرين جنيها فقط. وبصراحة كان صديقى محقا أننى لا أملك أى تذوق بصرى».

ضحك خالى ثم ساقنى فى هدوء إلى المحطة.

وهكذا عدت فى القطار التالى منطفئ العينين متدلى الكتفين، مثل بطوط بالضبط.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية