تحت هذا العنوان، كتب الدكتور عبدالمنعم سعيد مقالا تناول فيه عددا من القضايا الحيوية، ومقالاتى بـ«المصرى اليوم»، كما تناول علاقته بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، اعتمادا على الذاكرة، ولكنها خانته للأسف، فالمركز لم يشرف بأن يكون د. عبدالمنعم من «واضعى بذرته»، ولا نشرته «سٍواسية»- التى شرفت بأن يختار اسمها، فقد اقتصرت علاقته بالمركز على عضوية مجلس أمنائه- الذى تشكل بعد تأسيس المركز- من عدد من أبرز الحقوقيين والأكاديميين من عدة دول عربية، كما ساهم د. عبدالمنعم- مشكورا- عام 1995 فى الإعداد لإصدار مجلة المركز «رواق عربى»، التى صدر عددها الأول فى 1996، بعد انقطاع علاقته بالمركز، فى أعقاب تعيينه مديرا لمركز «الأهرام». خلال الأعوام التالية، لم تنقطع حبال الود، ولا اللجوء إليه لاستشارته، ليس فقط باعتباره عضوا فى مجلس الأمناء، ولكن أيضا باعتباره مفكرا وأكاديميا مرموقا، ولأنه كان مهموما بقضية «التحول الديمقراطى»، فضلا عن قربه من دائرة صنع القرار، من خلال عضويته بـ«لجنة السياسات» فى الحزب الوطنى.
يخلط د. عبدالمنعم بين «الربيع العربى» ورد فعل الثورة المضادة الانتقامى عليه، والنتائج المأساوية التى ترتبت على هذه الأعمال الانتقامية. لو تأمل الكاتب قليلا النموذج الوحيد الناجح نسبيا- أى تونس- لأدرك العلاقة بين استقرارها ونجاحها النسبى وبين محدودية قوة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وبالتالى قدرتها على القمع المتواصل والدموى، مثلما حدث فى بقية بلدان الربيع العربى. ولكن الكاتب بدلا من أن يلوم النظم التسلطية فى العالم العربى على عدم تجاوبها قبل «الربيع العربى» مع مطالبات الشعوب والحقوقيين والمفكرين، (كان د. عبدالمنعم يوما أحد هؤلاء)، بالإصلاح السياسى والتشريعى والاقتصادى، يلوم الكاتب الشعوب على اضطرارها للانتفاض على حكامها، بعد أن يئست من الإصلاح. بدلا من أن يلوم الكاتب الحكومات والأجهزة الأمنية والعسكرية على أعمال القمع الدموى والمذابح الجماعية- بما فى ذلك القصف بالطائرات والدهس بالمدرعات- ضد أعمال الاحتجاج التى بدأت سلمية فى كل دول الربيع العربى، فإنه يلوم حركات الاحتجاج على ما ترتب على هذا القمع من نتائج كارثية فى بعض هذه الدول. ميلاد «داعش» كان إحدى هذه النتائج. ولكنه أيضا كان نتيجة مبادرة الرئيس بشار الأسد بالإفراج عن عدد كبير من أخطر الجهاديين وأكثرهم تطرفا، من أجل دفع الانتفاضة فى سوريا- التى كانت مازالت سلميةـ إلى طريق التطرف والفوضى. لم يكن ذلك الإفراج مطلبا للانتفاضة فى سوريا ولا فى غيرها. ومع ذلك، قام المجلس العسكرى فى مصر أيضا بالإفراج عن مئات الجهاديين فى عام 2011.
الفجوة الناشئة عن الفشل المزمن للأنظمة التسلطية فى تلبية احتياجات التطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى للشعوب فى العالم العربى، وكذلك عن القمع المتواصل لبدائل هذه النظم، لم تجد من يملؤها سوى جماعات التطرف الدينى/ أو الإرهاب المنظم. يستنكر الدكتور تنويه مقالاتى بضرورة معالجة «الأسباب الجذرية» Root Causes للإرهاب من استبداد وقمع وفقر. ولا يلاحظ الدكتور أننى لم آت بجديد، فهذا هو ما تنصح به الدراسات الأكاديمية الرصينة ومقررات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والقمم العالمية الأخيرة لمكافحة الإرهاب. هذا المنظور الشامل هو ما يؤمن به مركز القاهرة ويركز عليه فى خطابه الحقوقى اليومى. ولهذا السبب كان مركز القاهرة هو المنظمة الحقوقية الوحيدة فى العالم العربى، التى دُعيت هذا العام إلى المشاركة فى قمتين عالميتين لمكافحة الإرهاب، جنباً إلى جنب ملوك ورؤساء الدول العربية يختزل الدكتور أسباب نشأة الإرهاب فى مصر والعالم العربى فى سبب واحد منها، هو الأيديولوجية المتطرفة.
ولكن هذا التفسير الأحادى لا يفسر لنا لماذا نجح هذا الخطاب المتطرف فى أن يجد دائما سندا سياسيا واجتماعيا واسع النطاق له، ولعشرات السنين بشكل متواصل، وفى العالم العربى دون غيره من مناطق العالم. يرد الدكتور بأنه «غياب الردع». لا يلاحظ الدكتور أن الفشل العالمى فى مواجهة الإرهاب- منذ هجمات 11 سبتمبر- يرجع بالذات إلى اقتصاره على «الردع». بينما لم يفعل العالم شيئا تقريبا فى علاج «الجذور الأساسية».
نعم، لقد شهد العالم مع أوباما مقتل بن لادن على شاشات التليفزيون، ليحل محله البغدادى. على الأرجح سنشهد مقتل البغدادى، ليحل محله زعيم وجماعة أخرى أكثر تطرفا ودموية، ذلك ما لم يبذل العالم جهدا جادا فى علاج «الجذور الأساسية»، بالطبع بجانب استمرار الأساليب الأمنية والعسكرية. هذا هو الدرس الأول لأربعة عشر عاما من الفشل فى مكافحة الإرهاب، بل والمساهمة فى تمدده. فى مقال آخر- «النصر على الفاشية»- يلوم د. عبدالمنعم أمريكا، لأنها لم ترسل جنودا لردع «داعش» الفاشية. غير أنه إذا كان هناك لوم يوجه لأمريكا فى هذا السياق، فهو تقاعسها قبل ذلك عن «ردع» الرئيس الفاشى بشار الأسد، بعد أن استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، رغم تحذيرات الأمم المتحدة وإدارة أوباما ذاتها.
هذا القصف الكيماوى وإفلات بشار دون عقاب هو أحد أسباب تمدد «داعش» اللاحق. هذا مثال إضافى على أهمية التصدى للجذور الأساسية للإرهاب. الدرس الثانى يتصل بما يقدمه د. عبدالمنعم كسبب وحيد للإرهاب- أى الخطاب الدينى المتطرف- الذى لم ولن يَجْرِ «ردعه»، ذلك لأن مصدره هو المؤسسات الدينية الحكومية فى كبريات الدول العربية التى تزعم حكوماتها أنها تكافح الإرهاب. د. عبدالمنعم يركز جهده على المنتج الأخير لأوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية امتزجت بخطاب دينى جهول ومتطرف يتغذى ويمول إنتاجه من هذه الدائرة الجهنمية، بدلا من كسر هذه الدائرة- أى «الجذور الأساسية»- يحثنا الدكتور على مواصلة نفخ «القربة المقطوعة».
هناك عدة مدارس فى التعامل مع مسألة «استقرار الدول». بينها مدرسة تقول إن التسلطية والقبضة الحديدية للحاكم شرط لاستقرار الدول وعدم شيوع الفوضى وتعريضها لمخاطر الانقسام، مثل الاتحاد السوفيتى السابق والصين الآن وغيرهما. ولكن هناك مدرسة أخرى- ينتمى إليها كاتب هذا الرد- تعتقد أن استقرار الدول التسلطية هو مؤقت وقصير المدى، مهما طال، وأن التجربة التاريخية قد برهنت على أن أكثر الدول استقرارا هى الدول الديمقراطية، إنها أيضا الدول التى يستحيل توطن الإرهاب فيها. على نقيض ما يقوله الدكتور- فى مقاله «النصر على الفاشية»- فإن علاقة الإرهاب بالدول التسلطية والديمقراطية لا تتساوى، فقد تشهد بعض الدول الديمقراطية هجمات إرهابية من وقت لآخر، أو تنشأ فيها جماعات إرهابية مثل الألوية الحمراء أو بادر ماينهوف. ولكن هذه الجماعات لا تستطيع التوطن فيها لعشرات السنين، ولا يمكن أن تتشكل حولها حاضنات اجتماعية وسياسية بالملايين، مثلما هو الحال فى عالمنا العربى، فضلا عن أن تؤسس دولة كاملة الأركان، لا ينقصها سوى اعتراف الأمم المتحدة بها. ما لم يَجْرِ علاج أسباب دعم الملايين من السُّنة والبدو فى العراق وسوريا وسيناء لـ«داعش» وغيره من المنظمات الإرهابية، فلن نتقدم خطوة واحدة وراسخة للأمام فى استئصال الإرهاب.