كان اعتقال مندوبى قناة الجزيرة المصرى الكندى محمد فهمى والأسترالى بيتر جريسته، فيما عُرف وقتها (2012) بخلية فندق الماريوت مأساة وملهاة، دفع النظام المصرى الحاكم بسببه ثمناً سياسياً وأدبياً فادحاً. واضطر النظام فى النهاية إلى التراجع، وأن يُفرج عن الصحفيين الأجانب تحت ضغط الإدانات الدولية.
ويتصور أى عاقل، سواء فى السُّلطة أو بالقُرب منها أن يكون النظام الحاكم قد تعلم الدرس، ولكن هيهات هيهات، فقد ارتكب نفس الحماقة مرتين فى السنة الأخيرة (2015).
الأولى حين أمر بالقبض على أحد أكبر رجال الأعمال المصريين، وهو المُهندس صلاح دياب، عند الفجر فى غُرفة نومه. والثانية، حين أمر بوضع اسم الناشط الحقوقى حُسام بهجت على قوائم ترقب السفر أو الوصول من وإلى كل الموانئ المصرية.
وقد تعمدنا استخدام كلمة غباء فى عنوان المقال، لأن الغبى هو الذى لا يتعلّم من أخطائه، ولا يستفيد من تجاربه السابقة. بل أدهى من ذلك أن يترتب على هذا الغباء إفشال سياساته المُعلنة، وتشويه صورة النظام فى الخارج، وتقويض شرعيته فى الداخل.
من ذلك أن طريقة إلقاء القبض على واحد من أكبر رجال الأعمال فى مصر، ومن أشهرهم فى العالم فى بيته، داخل غُرفة نومه، بفراشه، هى همجية وقسوة تتنافى مع الذوق العام، ومع أبسط الحقوق التى ينص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والذى كانت مصر، مُمثلة بمندوبها الدائم فى الأمم المتحدة، وقتها 1948، وهو الدكتور محمود عزمى، إحدى الدول العشرين التى أسهمت فى صياغته، وضمن الخمسين دولة الأولى التى وقّعته.
هذا، من الناحية الحقوقية والأدبية. أما من الناحية العملية، فإن المُضاعفات السلبية للقبض على المُهندس صلاح دياب، تجلّ عن الحصر. ففى بداية عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى، دعا الرجل لمؤتمر قمة اقتصادى فى مُنتجع شرم الشيخ. ولبى الدعوة ملوك ورؤساء دول، ورجال أعمال، عرب وأوربيون وآسيويون، وأمريكيون. وكان ضمنهم من رجال الأعمال المصريين المهندس صلاح دياب، الذى كان يعرف بالفعل كثيراً من رجال الأعمال الأجانب المدعوين للمؤتمر، وتعرّف بآخرين لم يكن يعرفهم من قبل.
وحين عرف مَن حضروا مؤتمر شرم السيخ بواقعة القبض على صلاح دياب، فلا شك أن عدداً منهم، إن لم يكن أغلبهم، قد فكر مرتين أو ثلاثًا، قبل المُخاطرة بالاستثمار فى مصر.
ولعل أساطين نظام الرئيس عبدالفتاح السيسى يجهلون إحدى أهم حقائق الاستثمارات الخارجية. وهى أن رأس المال الأجنبى لا يأتى إلى أى بلد إلا فى ذيل رأس المال الوطنى أو المحلى. فهذا الأخير، وليس تصريحات أو وعود الحكومة، هو الذى يُقنع المستثمر الأجنبى ويُعطيه الشعور بالأمان.
والمُفارقة الغريبة هى أنه قد ظهر أن صلاح دياب دُوهم بيته، وروّعت أسرته وأصدقاؤه بغير حق. ورغم الإفراج عن الرجل خلال أيام، إلا أن الضرر المعنوى والسياسى والاقتصادى كان قد وقع بالفعل. وطبعاً، الرجوع إلى الحق فضيلة. وهناك قول قانونى مُعتبر، فحواه أن «العفو عن ألف مُتهم، حتى لو ثبتت جرائمهم، أفضل للمجتمع، ولجوهر العدالة، من وقوع ظُلم على برىء واحد».
أما حالة الناشط الحقوقى حُسام بهجت، فقد تم القبض عليه بعد أن نشر مقالاً فى صحيفة مدى مصر، عن ضُباط جرت مُحاكمتهم عسكرياً على تهم لا يعرف عنها الرأى العام، ولا حتى ذووهم، شيئاً. ولم يفعل حُسام بهجت سوى المُطالبة بالمعلومات حول القضية، والحق فى المعرفة، بما فى ذلك الاطلاع على وقائع توجيه الاتهام والمُحاكمة، وحيثيات الحُكم. ومُطالبة حُسام بهجت بالمعرفة فى هذا الصدد، هى ضمن الحقوق التى نص عليها دستور 2014. ومع ذلك أصدرت إحدى السُلطات الأمر بالقبض على حُسام بهجت وحبسه، دون مُحاكمة.
ولولا أن عددًا من رؤساء بُلدان أمريكا اللاتينية، هددوا بإثارة قضية حُسام بهجت فى مؤتمر القمة العربية ـ اللاتينية بالمملكة العربية السعودية فى أواخر العام الماضى (2015)، لما تم الإفراج عن حُسام بهجت.
ويبدو أن نفس الغباء السياسى يتجلّى فى قضية المُفكر الإسلامى، إسلام البحيرى، الذى أخذ دعوة الرئيس السيسى بضرورة تجديد الفكر الدينى، مأخذ الجد، وبدأ اجتهاداته، فى هذا الصدد من خلال برنامج تليفزيونى، عنوانه «مع إسلام»، فإذا بالكهنة فى الأزهر ينتفضون، ويتهمون إسلام البحيرى بالجهل والضلال. وبدلاً من أن يسوقوا حججهم المُضادة، ضغطوا على حكومة السيسى، فأوقفت القناة التلفزيونية برنامج «مع إسلام».
والسؤال الجدير بالإثارة هو: من بالضبط يحكم مصر؟ هل هى رئاسة الجمهورية، فى قصر الاتحادية، أم هى وزارة الداخلية فى حى لاظوغلى؟
فإن كانت هى الرئاسة فى الاتحادية، بمصر الجديدة، فلابد من معرفة من يُحيطون بتلك الرئاسة، ومن يُقدمون إليها المعلومات، وكيفية اتخاذ القرار.
إن إلحاح تلك الأسئلة مصدره ما أشيع عن أن الرئيس السيسى هو رجل مُخابرات سابق، وأنه ما زال يعتمد على الجهاز الذى خدم فيه عدة سنوات.
أما إذا كان القرار فى وقائع صلاح دياب وحُسام بهجت وإسلام البحيرى، هو من جهاز الأمن الوطنى (مباحث أمن الدولة سابقاً) فى منطقة لاظوغلى بوسط القاهرة، فإن ذلك معناه أن ما يُسمى بالدولة العميقة ما زالت هى المُهيمنة على اتخاذ القرار، وضمن ما يُقال فى هذا أن وزارة الداخلية التى كانت قد فقدت هيبتها خلال ومنذ ثورة 25 يناير 2011، قد انتهزت فُرصة الحرب على الإرهاب، والمواجهة مع الإخوان المسلمين، لكى تستعيد هيبتها المفقودة.
ونحن ممن يؤيدون، بل يُطالبون، بأن تستعيد كل مؤسسات الدولة هيبتها، ولكن استعادة تللك الهيبة لا ينبغى أن تكون بانتهاك حقوق الإنسان، أو بتجاوز الضمانات التى نص عليها الدستور، الذى هو فى البداية والنهاية الدرع التى تحمى الوطن والمواطنين.
اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.
وعلى الله قصد السبيل