(1) الثورة ليس اسمها مرسي، ولا سالي، ولا عبدالفتاح، ولن تكون. الثورة ليست شخصاً ولا قصراً، ولا شعاراً نكتبه على الجدران ونغنيه في القصائد، الثورة فعل اجتماعي مضاد للقهر والفقر والظلم والتخلف، وبالتالي فإنني لست ممن يكفرون بالثورة، أو يندمون عليها، لا أندم على 23 يوليو، ولا أعتبرها (مثل بعض الرجعيين) «حركة جيش» سحبت البلاد إلى الوراء، لا أندم على ثورة الحدس الجماهيري العظيم في يناير 77، ولا أعتبرها «انتفاضة حرامية»، شددت قبضة السادات على الحكم وأسست لدولة الأمن المركزي، لا أندم على ثورة يناير، ولا أعتبرها «مؤامرة» جاءت بالإخوان لحكم مصر، لا أندم على ثورة 30 يونيو ولا أعتبرها مؤامرة مضادة أعادت الحكم للنظام القديم.
(2)
عندما تحدث الثورة يا أحبائي فإن هذا يعني للجميع شيئا واحدا لا ينبغي النزاع عليه، وهو «أن ثورةً حدثت» ولابد أن يندلع الصراع بشأن الاتجاه الذي تذهب إليه.. لا ثورة بلا جماهير، لا ثورة بلا دوافع غضب شديدة ضد وضع فاسد ومهترئ، لا ثورة بلا أمل في جديد يزيح عن عيوننا قبح ما كان، ويزيح عن أنوفنا عفونة ما طال، ويزيح عن ظهورنا تشوه انحناء مذل، وسياط ظلم وقمع وإفقار وتسلط، لا ثورة بلا وعي (فردي وجمعي) بما لا نريد، وبما نريد.. بما لا يريد أن يبقى من مساوئ، وبما يريد أن نؤسس من قيم جديدة عادة ما ترفع الثورات شعاراتها عالية وترويها بدماء شهدائها.
(3)
ما لانريد وما نريد، هو ما أسميه بثنائية الهدم والبناء اللازمة لأي ثورة، فلابد من هدم قلاع الفساد، وإسقاط رموز القهر والانتهازية والتبعية والطفيلية، وتأسيس قيم جديدة ومؤسسات جديدة تنظف المجتمع وتغرس فيه زهور الأمل للمجتمع المنشود، وإذا لم يحدث هذا في القصر، فلا تتصوروا أنه لا يحدث في الشارع وفي الحقل وفي المصنع، الثورة حدثت أيها الأحباء، ومازالت هي القضية الرئيسية في مصر، أراها واضحة في الصراع الذي يدور عنيفا في كل مكان الآن: على الشاشات، داخل أسوار القصور والمؤسسات الحاكمة، خلف جدران الأجهزة ومقار الأحزاب، على مقاعد المقاهي وداخل البيوت، فوق صفحات فيس بوك، وفي نقاشات الناس من الفضائيات إلى الميكروباص.
(4)
إذا اتفقنا على هذا، فلا أحب أن يحدثني أحد عن خديعة 30 يونيو، ولا أحب أن يبتسم بخبث وهو يدعي الحكمة بأثر رجعي ويقول شامتاً: شوفتوا.. ما قلنالكم.. كانت باينة من أولها... رجعتونا لحكم العسكر... السيسي ضحك عليكو.... شربتوا المقلب....!
ششششششششش.... هوسسسسسسسس، اركن على جنب شوية
(5)
مع احترامي لسعادتك، نحن نمضي في طريقنا نحو هدف لن نتنازل عنه، ونعرف أن الطريق مظلم، ومهجور، ومليء بالأوحال والعقارب والذئاب واللصوص، وأيضا بالمخاطر والتضحيات. لكننا سنمضي، فلا طريق للمستقبل غير هذا الطريق الصعب، قد نتعطل أمام عقبة لا يحلها إلا حجارة صماء نسد بها هوة تقطع الطريق، للحجارة فضل تجاوز عقبة، لكنها لن تكون أبدا قائدة الطريق الثوري، قد نحتاج إلى مصباح صغير، وحيلة في مواجهة لص، واستعداء عصابة على أخرى، لكن هذا لا يعني أبدا التسليم للصوص الطريق بأنهم أصحاب حق في تحديد مسارنا ولا اتجاهنا، هذه ظروف اللحظة، ولابد أن نتجاوزها، هذا طبيعي جدا، فمن المؤكد أن تنظيف الطريق وإنارته وتكاثر الناس فيه، سيكون مضادا لمصالح اللصوص وقطاع الطرق.
(6)
كان الحاج لينين يعرف أن الطريق إلى الثورة يستوجب مهمة خوض طويلة وخطرة في المستنقعات، وأدبيات الثورة لم تكذب في توصيل هذه المخاوف بأشكالها المختلفة ولا في الغرض من ترويجها، فقد تحدث عن الثورة المضادة كوندورسيه، وماركوزة، وهابرماس، وريجيه دوبريه، وغالي شكري، وكذلك برينتون وعمر سليمان، وعصام العريان، وصولا إلى الفيلسوف مرتضى منصور، كتائب الثوار حذرت من الهجمة المرتدة لأباطرة الفساد والتخلف والعفن الذين قامت ضدهم الثورة، وكتائب «آسفين يا ماري أنطوانيت» حذرت من المهالك التي تهدد المجتمع إذا نجح أشرار الثورة «بتوع الأجندات ووجبات كنتاكي.. اللي عاوزين كرامة وحرية ويبقوا أسياد زينا زيهم». على كل حال أثبت كل من الأحرار والفُجَّار ما صكه كوندورسيه أيام الثورة الفرنسية وما أكده فلاسفة كثيرون بعد ديالكتيك هيجل أن «كل ثورة تحمل بداخلها ثورة مضادة».
سيبك من كل هذا الكلام «المكلكع»، المهم أننا عرفنا أن مجتمعنا لم يستيقظ صباح 12 فبراير 2011 متطهراً من أوساخه، نقياً من عيوبه، بالعكس انتبهت القوى المضادة للثورة، ونظمت صفوفها، وشحذت طاقتها وأعدت أسلحتها لصراع انتقامي تقضي من خلاله على فكرة الثورة، وتخرب طريقها، وتشوه صورتها، وتهدم ما تحقق منها في المبنى والمعنى.
يعني الصراع عادي ومتوقع، والتفاصيل تتعلق فقط بما تكشفه «مناعة الوعي» من أسماء جنود الثورة المضادة غير المعروفين، فإذا عرفنا أن هذا الاسم أو ذاك ليس «خلية ثورية» بل مجرد «فيروس» مضاد، فإن الاكتشاف نفسه لا يستدعي اليأس من العلاج، فقط يكفي تصنيف الفيروس كعدو ضار بالثورة.
(7)
المؤسف أن حالة الفرز بين قوى الثورة، والقوى المضادة لها، عانت من صعوبات كثيرة في الثورتين الأخيرتين، نتيجة تجريف الوعي على مدى عقود طويلة، ونتيجة احتكار وسائل الإعلام والتوجيه، ومحركات قوة التشغيل بما توحي به من مشاعر زائفة لمصلحة المواطن البسيط، فهو قد يتصور أن مصالحه الخاصة تتطابق مع مصالح من يستغلونه، فيقف في صفهم، ويدافع عنهم، سواء بأجر، أو بحسن نية يؤدي في هذه الحالة إلى الجحيم، ومن هنا يتبين لنا أهمية تطوير آليات الكشف والفرز، ووضع المجتمع كله في عملية اختبار مستمرة، تكشف لنا بالتجربة من يقف مع الثورة ومن يقف ضدها، وهذا هو المسار الذي يجب أن تتحرك فيه الثورة بعيدا عن الصدام غير المتكافئ بين القوى، فقد ثبت عبر تجربتين في أقل من 3 سنوات أن الثورة ضعيفة ونبيلة، وأنها معرضة للسطو في كل مرة تدخل فيها مواجهة مباشرة مع القوة، وأن الاكتفاء بالصراخ والاستغاثة لا يكفي لكي تكلل طريقها بنجاح، بل هو برؤية أعقل، دليل على ضعفها وعدم قدرتها على المواجهة، أو تفكيرها بالحيلة.
(8)
يزعجني في نفسي، أنني لا أحب توجيه نصائح مباشرة، ولا يعجبني أن أرتقي المنصات مدعيا الحكمة، وبين الانزعاج والإعجاب راهنت دائما على القارئ الذكي الذي يقابل جهد الكتابة بإبداع الفهم، القارئ اللبيب الذي «بالإشارة يفهمُ»، لذا لن أذهب إلى فجاجة المباشرة، ولغة الوصاية، وادعاء امتلاك الحقيقة، فهذه السلوكيات ليست من قيم الثورة التي عشتها قرابة نصف القرن، والتي أطمح لتوسيعها ليعيشها مجتمع يستحق الأنبل والأفضل.
(9)
الثورة عندي ليست صراعا على السلطة، بل صراع مع السلطة، ليس «دائما» بهدف إطاحتها، ولكن بهدف أن تعمل كخادمة للشعب صاحب الحق ومانح السلطات. إن استئثار السلطة بالكلمة والفعل والاتجاه على مدى قرون، هو أكبر انقلاب للقيم في تاريخ البشرية، ونحن نسعى لتصحيح هذا الوضع، وإعادة الحقوق لأصحابها، وفي رأيي أن الخطوة الأهم في هذا التصحيح هي تعبئة الشعب من أجل استرداد حقه، وحقه ليس السلطة، بل منح السلطة لمن يعمل بكد وصدق لتحقيق مطالب الشعب، ونزعها ممن يتصور أنه الآمر الناهي المتحكم في مصالح ومطامح وبرامج الشعب.
وغداً يوم جديد، على رأي سكارليت بطلة «ذهب مع الريح»...