x

عمرو الزنط المادة المفقودة فى مصر عمرو الزنط الجمعة 25-12-2015 21:42


المادة المظلمة - القاهرة.. كان هذا عنوان ورشة علمية كان لى شرف تنظيمها فى فندق المينا هاوس بين ١٤ و١٧ من الشهر الجارى، بدعم من الجامعة البريطانية فى مصر وصندوق تنمية العلوم والتكنولوجيا وأكاديمية البحث العلمى. ضم هذا التجمع حوالى ٢٠ من علماء الفيزياء العالميين وعددًا مثلهم من المصريين، بينهم بعض طلاب الدراسات العليا، فى سياق ضيق يساعد على النقاش المطول وتبادل الآراء ومدّ جسور التعاون العلمى.. كانت التجربة مثمرة رغم الظروف الصعبة، وأعتقد أن العلماء العالميين الذين حضروا سيشهدون بوجود حياة شبه طبيعية هنا وإنتاج معرفى للعلوم الطبيعية على مستوى محترم تنتجه بعض المجاميع البحثية.

ماذا عن هذه المادة المظلمة وما أهميه البحث عنها وفيها؟ الأرصاد الفلكية تقول إن معظم المادة فى الكون فى صورة مفقودة وغير معلومة. الحال كما يلى: تصور أنك فى حجرة مظلمة وهناك كرة فسفورية تتحرك دائريًّا فى آخر خيط معتم. فى هذا الحال يمكن استتاج وجود الخيط نتيجة رصد الحركة الدائرية للكرة. بنفس المنطق يستنتج علماء الفلك أن هناك مادة «مظلمة» نتيجة رصدهم حركة المجرات الكونية.. هذا على مجال المساحات المهولة، فعلماء طبيعة المجرات يتكلمون عن مسافات تزيد عن عشرات الآلاف من السنين الضوئية، وقد تصل إلى عشرات آلاف الملايين من السنين الضوئية (والضوء يسير٣٠٠ ألف كيلومتر فى الثانية الواحدة، والسنة الضوئية عبارة عن ٣٠٠٠٠٠ مضروب فى ٦٠ فى ٦٠ فى ٢٤ فى ٣٦٥ كيلومترًا..). أما الجسيمات التى يمكن أن تشكّل هذه المادة فهى تسكن المجال الصغير جدا، أصغر بكثير من حجم الـ«نانو» الشائع أحيانا فى مصر كمقياس قياسى للتقدم العلمى التكنولوجى.. لذلك ضم المؤتمر علماء من مجالين علميين يبدو التباعد بينهما كبير: مجال الفيزياء الفلكية والجسيمات الأولية، وتسهيل التلاقى بينهم كان أحد التحديات.. لكن حتى إذا كانت الطرق الرياضية والمصطلحات المستخدمة متباعدة فتجمعهم فى النهاية لغة عقلانية يمكن من خلالها التعلم وتبادل الأفكار من خلال النقاش والجدل، فى سبيل تقريب المسافات وإيجاد حلول لمعضلات الكون. لذلك كانت التجربة مثمرة.

ولأننا فى مجال علمى جاد وليس فى حيز نظريات المؤامرة الشائعة فى مصر، هناك محاولات تتكلف أحيانا عشرات البلايين من اليورو والدولارات للكشف عن الجسيمات التى من المفروض

أنها تكون المادة المفقودة فى الكون. هناك محاولات تتم فيما يسمى بالـ«مصادم الكبير» فى المركز الأوروبى للأبحاث النووية، وهناك تجارب تعمل على الكشف المباشر عن تلك المادة عن طريق محاولة رصد تفاعلاتها الضئيلة جدا مع المادة العادية (المصنوعة من جسيمات مثل البروتونات والنيترونات)، ثم هناك محاولات لما يسمى بالكشف غير المباشر- فالجسيمات المظلمة يمكن أن تتفاعل مع بعضها البعض، على كثافات عالية، كى ينتج عن ذلك فى النهاية أشعة كهرومغناطيسية من نوع جاما، وهناك علماء يعتقدون أنهم رصدوا هذه الأشعة بالفعل، وحضر أحد أبرزهم المؤتمر فى القاهرة، كما حضرت نخبة من المشتغلين فى التجارب الأخرى المذكورة.

ماذا يعنى كل ذلك بالنسبة لنا فى مصر؟ أولا هذه مسائل جوهرية فى سياق فهمنا للعالم المادى وتنظيم الكون عقلانيا، وقد تحدثت كثيرا فى السابق عن أهمية مشاركتنا فى صنع الحضارة المعاصرة؛ فالمشاركة، حتى لو كانت متواضعة، تعود علينا باحترام العالم وفك العزلة المفزعة عنه.. وسياق المؤتمر نفسه، كما سردته هنا، يعكس منهجا فكريا وحوارا عقلانيا نفتقد طرقه فى مصر، وأعتقد أن ذلك من أهم معوّقاتنا. فى هذا الإطار دعنى أتحدث عن تجربة جعلت لهذا اللقاء العلمى مذاقا خاصا بالنسبة لى.

ألقيت محاضرة شككت خلالها كليا فى الأطروحات لحل معضلة المادة المفقودة والتى يتبناها بعض العلماء العالميين الحاضرين، لذلك كانت ردود أفعالهم الأولية حادة.. لكن بدلا من الخناق والإقصاء الذى تعودت عليه منذ أن عدت لمصر منذ ما يقرب من عقد من الزمن، بعد قضاء معظم حياتى فى الخارج، كانت هناك سهولة نسبية فى التواصل مع هؤلاء، فوصلنا فى النهاية لحل عقلانى: فهم سيعطوننى حساباتهم المبنية على محاكاة كمبيوترية عملاقة لا يمكن إتمامها فى مصر، ونحن (أنا وطلابى) سنحلل تلك النتائج لمعرفة ما هو أقرب للحقيقة؛ آرائى المبنية على تحليل رياضى، مبسط لكن دقيق، أو انطباعاتهم المبنية على تحليل أولى لهذه المحاكاة المتطورة.

لا أريد أن أوحى هنا بأنه لا توجد صراعات (عبثية أحيانا) فى المجال العلمى، لكن فى المقابل فجانب التلاقى العقلانى البناء نفتقده كليا فى مصر فى كل المجالات. لذلك، بدون نهج العلوم الأساسية لا نفتقد فقط لغة التكنولوجيا، إنما أيضا أساسيات طريقة التفكير العقلانية؛ لغة عقلانية يمكن الاختلاف والتوافق من خلالها دون الحاجة للصراع العنيف والإقصاء.. مما ينتج عنه عجز عن التوافق فى الداخل والتلاقى مع الخارج، وهذا فى أساسه مأساة السنوات الماضية فى مصر.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية