أقول- لكل مسؤول- مهما كان موقعه: صديقك من صَدَقَك.. وليس من صَدَّقك! وليسمعها منى كل مسؤول، إذا أراد إصلاحاً أو علاجاً، أقول ذلك وقد تجاوز عمرى الثمانين عاماً.. أى عرفت من الدنيا أكثر مما عرفوا، وخبرتها.. أكثر مما خبروا.. وليس لى من هدف إلا أن نحافظ جميعاً على هذا الحزب العريق الذى تربينا على مبادئه.. وحتى لا تجىء أجيال تلعننا، لأننا فرطنا فى هذه الثروة التى تحمل اسم الوفد.
والمناسبة هى ما وصل إليه حزبنا.. وما كنا نحلم أن نحقق به وله، ما يجعلنا نفخر بأننا حافظنا على ما وصل إلينا من أفكاره ومبادئه؟!، ولكن ما هى الأسباب التى أدت إلى ما هو عكس ذلك.. ما الذى أصابه.. وأى «وهن» يعيش فيه.. بينما كان يمكن أن يستعيد هذا الحزب ثوريته، وهو الذى ولد من رحم الثورات.. وعاش وتربى.. بل وكان وقود الثورات التى أطالت عمره.. ولكن للأسف.. حدث ما لم يكن فى الحسبان.. وضاعت الفرصة الحقيقية لكى يستعيد الوفد ثوريته.. وينعش أفكاره.. وينفض التراب عن مبادئه العظيمة.. نعم: لماذا وكيف ضاعت الفرصة لكى يعود إلى مقدمة المشهد السياسى والاجتماعى والاقتصادى.. وأن يقود الجماهير، من جديد.. لأنه فعلاً هو حزب الثورة الأول.
أول هذه الأسباب: انحسار العمل السياسى والاجتماعى داخل المقر الرئيسى للحزب، فى الدقى.. وأقصد به «بيت الأمة»، رغم أن الحزب يمتلك مقار فى معظم محافظات مصر، إن لم يكن كلها، وهذه ميزة ينفرد بها حزب الوفد عن كل أحزاب مصر، وهى سياسة ابتدأها فؤاد باشا وسار عليها معظم من جاء بعده.. وكنت دائماً، وأنا عضو قديم بالهيئة العليا، أشدد على أهمية «الخروج» من المقر الرئيسى.. حتى يقود الوفد جماهير الأمة، فى كل المحافظات، ولا يتحول الوفد إلى مجرد مبنى حتى ولو كان قصراً، فالعبرة هى بالخروج إلى الناس بالعمل والأفكار، بالتحرك الذى «يقود»، لا أن تأتى حركته متأخرة.
ومن المؤكد أن بطء حركة الوفد فى السنوات العشر الأخيرة وتقصيره فى حجم العمل الجماهيرى ومعايشته للناس فى قراهم ونجوعهم هى التى أعطت الآخرين من تيارات معينة تتسربل بالأفكار الدينية فرصة الظهور.. بل وقيادة العمل الجماهيرى.. ووصل بنا الأمر إلى أننا سخرنا من حكايات الزيت والسكر.. ونسينا أن الوفد كان هو حزب أصحاب الجلابيب الزرقاء، أى الفلاحين، وكان معظم وقوده من العمال والطبقة الفقيرة.. ولكنه- للأسف- أصبح فى الفترة الأخيرة حزب الارستقراطية.. وحزب أصحاب المصالح، وما أكثرهم الآن فى حزب الجلابيب الزرقاء.. وهكذا خلت الساحة ليحتلها أصحاب الأفكار إياها.. أو المبادئ الهدامة.. وعندما أفاق البعض كانت الساحة قد تغيرت تماماً.
وقد تبع تقوقع العمل السياسى داخل المقر الرئيسى أن تحول بيت الأمة نفسه إلى ما يشبه القصر المهجور.. وامتد هذا «الخواء» من القيادة بالقاهرة، إلى باقى مقار الحزب.. والسبب سوء اختيار أمناء الحزب بالمحافظات.. بسبب عدم شفافية اختيار رؤساء لجان الحزب بكل محافظة.. وعدم قدرة هؤلاء على تجديد دماء الأعضاء بالمحافظات، وهى القواعد الحقيقية التى تمد الحزب بكفاءاته المتجددة. وأتحدى- لمن يراجع كشوف العضوية- أن يقول غير ذلك.. والنتيجة أن المرشحين الذين دفع بهم فى الانتخابات لم يجدوا من أعضاء المحافظة العدد ولا الكفاءات التى تقف وراءهم، وتكون مقدمة هذا التحرك السياسى.. وكانت النتيجة أنها أصبحت لجاناً بلا فاعلية، وأعضاء بلا قدرة على العمل.. وبذلك «تاه» الوفد فى المحافظات.
وكان هذا القصور من أهم الأسباب لانحسار التواجد الوفدى على الساحة فى أى مدينة، وكل مدينة.. ونتائج الانتخابات خير دليل.
وأعترف أن الدكتور السيد البدوى شحاتة، بصفته رئيس الحزب، قد قام بعدد من الجولات، ولكنها توقفت عند زيارات لمقار انتخابات المرشح الوفدى فى دائرته.. وللأسف- تمت كلها- بسبب هذه الانتخابات، وهنا أتذكر زيارات زعماء الوفد القديمة للمحافظات. وكيف أن سعد زغلول نفسه- وكذلك خليفته النحاس باشا- يقوم بزيارات ممتدة لأسابيع عديدة.. «بالدهبية» من الجيزة وإلى أقصى جنوب الصعيد.. ينزل عند هذه القرية.. ويزور تلك المدينة، يدخل بيت هذا.. ويتعشى فى دوار هنا أو هناك.. يلقى الخطب ويستقبل الناس.. وكان بذلك يبعث برسائل للأمة كلها.. وكان هذا الاختلاط بالناس هو الذى يشعل الجماهير ويجعلها تزداد التفافاً حول الحزب ومبادئه.
وكذلك فعل فؤاد باشا.. ولن ننسى كيف أن «الأمن» كان يمنعه دائماً من هذه الحركة.. خشية من زيادة شعبيته.
ولكن تحركات رئيس الحزب الآن- وطوال المعركة الانتخابية- مع أهميتها إلا أنها جاءت متأخرة.. وربط الناس بينها وبين الانتخابات.. بينما الهدف، أن تكون دائمة، وللأسف لم نجد من رؤساء لجان المحافظات من يحاول إنقاذ الموقف.
فأصبحت مقار لجان المحافظات- تماماً- مثل المقر الرئيسى مقراً للأشباح، بينما كان يجب أن تمتلئ بالنشاط والحركة.. وإذا كان الدكتور نعمان جمعة قد استغل ترشحه لانتخابات الرئاسة لإعادة بعث الحياة والأفكار الوفدية.. فهذا لم يحدث- كما يجب- فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة.. وكان كل ذلك بلا فاعلية تذكر.. فهجرها الناس، ولم يحقق الوفد ما نحلم به من قيادته للثورة.
ولكن هل ضاعت الفرصة أمام الوفد؟!... غداً نواصل.