حفل تاريخ مصطفى النحاس الذى خلف سعد زغلول باشا فى زعامة الوفد بالمواقف الوطنية الكثيرة. حتى توليه الوزارة فى 4 فبراير 1942، رغم أنه كان بتهديد من السفير البريطانى- قبله الملك فاروق مرغما، إلا أن قراره اعتبر وطنيا من أجل إنقاذ مصر فى ظروف عصيبة واجهتها بريطانيا وهى ترى نفسها على أبواب هزيمة قاسية تدخل فيها ألمانيا مصر، ولم يكن أمامها سوى التشبث بوزارة شعبية ترضى الشعب وتضمن وقف مظاهراته التى كانت قد خرجت تهتف: «إلى الأمام يا روميل». إلا أن موقف النحاس من عريضة المعارضة التى بعثت بها إلى الملك (انظر الحلقة السابقة) كان مخيباً. ولعله كان إشارة إلى بداية تقلص قوة الوفد أمام الملك مما كان من نتيجته استعداد الشعب فى ضميره إلى تقبل عملية تغيير الحكم.
وقد كان ذكاء فاروق أنه عندما تلقى عريضة المعارضة قام بتحويلها إلى الحكومة لتتعامل معها، مما أوقعها بالفعل فى الفخ وجعلها تتعامل معها وكأنها موجهة من المعارضة إلى الحكومة لا إلى الملك. وهكذا فإنه فى يوم الأحد 21 أكتوبر صدر بيان عن رئيس مجلس الوزراء مصطفى النحاس نشرته الصحف، عنوانه «لن تسكت الحكومة على هذا الإجرام السافر»، وكان نصه: «تلقيت من ديوان جلالة الملك عريضة موقعاً عليها من ستة عشر من رجال السياسة اتجهوا فيها إلى المقام السامى طالبين تصحيح الأوضاع الدستورية ورد الأمور إلى نصابها، ومعالجة المساوئ التى تعانيها البلاد على أساس وطيد من احترام الدستور وطهارة الحكم وسيادة القانون بعد استبعاد من أساءوا إلى البلاد وسمعتها.
وقد جانب هذه العريضة التوفيق والصواب فى شكلها وفى موضوعها. فمن ناحية الشكل اختار الموقعون عليها لرفعها إلى جلالة الملك المعظم اليوم السابق لعودته من رحلته وأرسلوها إلى الصحف لنشرها (صدرت أوامر الرقابة المشددة وتم منع نشرها)، وسلموها لوكالات الأنباء الخارجية لإذاعتها، وذلك كله فى اليوم السابق لوصولها إلى القصر الملكى.
وقد توجه ثلاثة منهم إلى قصر عابدين، وهم يعلمون أن رجال القصر جميعا بالإسكندرية، حيث مقر جلالة الملك فى الوقت الحاضر، ولما لم يجدوا أحدا بطبيعة الحال أرسلوها بالبريد الموصى عليه إلى حضرة صاحب السعادة رئيس ديوان جلالة الملك بالنيابة بقصر رأس التين. وفوق ذلك فقد قدمت العريضة على ورق وبخط غير لائقين بما يُرفع إلى أسمى مقام فى البلاد» (ظهرت نكتة فى ذلك الوقت أن المعارضة أرسلت صورة من عريضتها إلى جلالة الملك على عنوانه فى قصر عابدين بجوار سينما رويال، وكانت مكان مسرح الجمهورية حاليا!).
ويستكمل بيان النحاس قائلا: «أما ما أوردته العريضة بشأن التحقيق الجنائى الخاص بأسلحة الجيش زعما منها أنه قد تناول بعض تصرفات رجال من الحاشية الملكية، وأنه يُخشى أن تقصر يد العدالة عن بلوغهم، فإن الحكومة ليس فى وسعها أن تخوض فى هذا الأمر لتقديم الأدلة الحاسمة على إفك ما يزعمون نزولاً منها على قرار النيابة العامة بحظر النشر وتقديسا لحرمة التحقيق. وإنها لتُذكّر فى الوقت نفسه مقدمى العريضة- ومنهم من كان رئيسا للحكومة (تقصد إبراهيم عبدالهادى باشا) أو للمجلس التشريعى الأعلى (محمد حسين هيكل باشا)، وجلهم من الوزراء السابقين- بأن السلطات القضائية فى مصر قد برئت حتى اليوم وستبرأُ دائما من كل ما يمس استقلالها ونزاهتها. وإن الحكومة وقد أفسحت من صدرها إلى اليوم لعل هذا البعض يعود إلى رشده، ويدرك مبلغ ما تضر به مصالح البلاد العليا جراء هذه الخطة المدبرة، إن الحكومة إزاء هذا الإصرار لن تسكت بعد اليوم عن هذا الإجرام السافر فى حق البلاد. توقيع رئيس مجلس الوزراء مصطفى النحاس بتاريخ 21 أكتوبر 1950».
كانت الملاحظة المهمة على هذا البيان الذى صدر بصورة رسمية من رئيس الحكومة أنه يرد على عريضة منعت الحكومة نشرها، وأنه كما قيل فى وقتها جزم قبل أن ينتهى التحقيق فى قضية أسلحة الجيش بأن ما نُسب إلى بعض رجال الحاشية الملكية إفك يزعمه المعارضون. وكان الأسوأ قيام الحكومة بنقل النائب العام محمد عزمى بك إلى إدارة قضايا الحكومة، ولما رفض المنصب الجديد تمت إحالته إلى المعاش.
ولعل هذا التصرف يذكّر بموقف مشابه حدث بعد 62 سنة، عندما قرر الرئيس الأسبق محمد مرسى الأسبق الإطاحة بالمستشار محمود عبدالمجيد، النائب العام، مما انتفض له رجال القضاء بقيادة المستشار أحمد الزند، رئيس نادى القضاة، وكان القرار خطوة فاصلة فى إنهاء حكم مرسى والإخوان.